تحت غطاء كثيف من القصف والتقدم العسكري، تشهد الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة تحولًا غير مسبوق في شكل القتال وأدواته، حيث تبرز التقنيات العسكرية غير المأهولة كعنصر أساسي في العمليات، لتُعيد صياغة مفهوم السيطرة الميدانية في النزاعات المسلحة.
فمنذ بداية الحرب، اعتمد الجيش الإسرائيلي بشكل متزايد على أنظمة قتالية غير مأهولة تُدار عن بُعد، أبرزها طائرات "الكوادكوبتر"، والعربات المدرعة، والجرافات العسكرية التي تُشغّل دون تدخل بشري مباشر.
"الكوادكوبتر": عين في السماء وسلاح على الأرض
طائرات "الكوادكوبتر" الصغيرة تحوّلت إلى ركيزة مركزية في العمليات الاستخبارية والهجومية داخل المناطق المكتظة في غزة، حيث استُخدمت لمهام المراقبة، وتحديد الأهداف، والدعم الناري للوحدات المتقدمة، وحتى التحكم في حركة السكان وتوجيههم نحو مسارات النزوح.
وبحسب تقارير ميدانية، لعبت هذه الطائرات دورًا في الحرب النفسية، عبر بث أصوات أو إلقاء منشورات، أو تصوير تحركات السكان ونقلها لحظيًا إلى مراكز القيادة الإسرائيلية.
"روب دوزر": الجرافة الروبوتية تشق طريق الحرب
إلى جانب الطائرات، وسّع الجيش الإسرائيلي من استخدامه للجرافات العسكرية من طراز "دي 9" الموجهة عن بُعد، المعروفة باسم "روب دوزر". وتعد هذه أول مرة يتم فيها استخدام جرافات قتالية آلية بهذا الحجم في ساحة حرب حضرية نشطة.
يبلغ وزن الجرافة الواحدة أكثر من 60 طنًا، وتُستخدم لتفكيك مبانٍ، وإزالة أنقاض، وفتح ممرات ميدانية للقوات البرية، دون الحاجة لوجود طاقم بشري داخلها. وقد طورتها شركة الصناعات الجوية الإسرائيلية بالتعاون مع الجيش، وتم اختبار تشغيلها في الولايات المتحدة.
وقال أحد مطوريها، راني (اكتفى باسمه الأول لأسباب أمنية)، إن "الروبوت يعمل بشكل أكثر كفاءة من الإنسان في بيئات القتال المعقدة".
ميدان بلا جنود: تغيير جذري في مفاهيم الحرب
يرى خبراء عسكريون أن الحرب في غزة مثّلت أول تطبيق ميداني واسع لنظام قتالي غير مأهول، يمهد لما يُعرف بـ"الحرب بالوكالة التكنولوجية"، حيث يُدار الصراع عن بعد، وتتحول الآلة إلى عنصر مركزي في احتلال المساحات دون وجود بشري دائم.
وقال العقيد البريطاني المتقاعد أندرو فوكس إن إسرائيل قد تكون "أول قوة عسكرية تُدخل الآلات الموجهة عن بُعد إلى حرب حقيقية بهذا النطاق"، واصفًا ما يحدث بأنه "نقلة نوعية في نمط الحروب".
بين الكفاءة التقنية والأسئلة الأخلاقية
رغم الكفاءة العالية لتلك الأدوات، أثارت هذه التكنولوجيا مخاوف قانونية وأخلاقية. إذ يرى متخصصون في القانون الدولي، من بينهم الباحث تال ميمران، أن الاعتماد المفرط على الآلات قد يؤدي إلى تآكل القرار البشري في ساحة المعركة، لا سيما في مواقف استثنائية تتطلب مرونة وتقييمًا أخلاقيًا دقيقًا.
وقال ميمران: "التكنولوجيا لا يمكن أن تكون بديلاً للدوريات والوجود البشري. ما حدث في 7 أكتوبر أظهر أن الجدران الذكية لا تكفي لحماية الحدود، إذا لم تكن هناك قراءة بشرية للمشهد."
نموذج قابل للتصدير؟
يشير بعض المحللين إلى أن الجيش الإسرائيلي، من خلال تطبيق هذه الأنظمة، يسعى لتسويق نموذج قتالي جديد على المستوى الدولي، قائم على اللامركزية والقتال عن بعد، خصوصًا في الحروب غير المتكافئة وفي البيئات المدنية المعقدة.
لكن في المقابل، تزداد المخاوف من أن إزالة "العنصر البشري" قد يسهل ارتكاب انتهاكات جسيمة، كما تُضعف من قدرة الجيوش على المحاسبة الداخلية والانضباط.
في قلب المعركة... آلة بلا رحمة
وبينما تُوظّف هذه الأنظمة في أكثر البيئات ازدحامًا وفقراً في العالم – قطاع غزة، يرى منتقدون أن استخدام "الذكاء الصناعي" والروبوتات في حرب ضد شعب أعزل لا يعكس فقط الفجوة التكنولوجية، بل يُعمّق مأساة المدنيين، ويخلق ميدانًا جديدًا لا يحكمه التوازن العسكري بقدر ما تحكمه الفجوة التقنية الأخلاقية.