تقرير ألاء أحمد :- في غزة، حيث تتقاطع أصوات القصف مع بكاء الأطفال وسط استمرار الحصار الخانق الذي تفرضه اسرائيل على غزة من أكثر من شهرين واشتداد المجاعة بين صفوف المواطنين خاصة الاطفال، يصبح الضحك حدثًا نادرًا، ولحظة مقاومة ناعمة تُشعل شمعة في عتمة الحرب. هناك، في قلب الركام، وُلدت مبادرة "بكفي بدنا نفرح" كاستجابة فنية وإنسانية لطفولة تُحاصر يوميًا بالخوف والجوع، ولجيل يحاول أن ينتزع من الموت فسحة للحياة.
على مدار يومين، تحوّلت ساحة صغيرة في أحد المنازل غرب مدينة غزة إلى صالة عرض مؤقتة، لا تملك رفاهية مقاعد السينما المريحة أو الشاشات الحديثة، لكنها امتلأت بما هو أثمن: ضحكات، دهشة، وعيون تلمع بحكايات من عالم آخر. فبدعم من الصندوق الثقافي الفلسطيني، قدّمت المبادرة عروضًا سينمائية مجانية لأطفال عاشوا حرب الابادة الجماعية في قطاع غزة منذ احداث السابع من أكتوبر 2023 لأكثر من عام ونصف بين النزوح والقصف والتجويع، وكأنها جرعة حياة وسط كل هذا الألم.
لم تكن الفكرة مجرد ترفيه، بل فعل مقاوم. أن تضحك في غزة، يعني أنك ما زلت حيًا. أن تحلم، يعني أن القصف لم ينجح في محو إنسانيتك. وهذا تمامًا ما حاولت المبادرة أن تصنعه: مساحة مؤقتة للهروب، للتنفس، ولتذكير الصغار بأن لهم حقًا في الفرح، مثل كل أطفال العالم.
من جهته، قال الفنان المسرحي والناشط الثقافي جمال أبو القمصان إن مبادرة "بكفي بدنا نفرح" وُلدت من الحاجة إلى لحظة إنسانية حقيقية وسط واقع الحرب والحصار، مؤكدًا أن الأطفال في غزة يعيشون تحت وطأة الخوف والجوع منذ سنوات، "والآن أكثرمن أي وقت، يحتاجون إلى فرصة للضحك، للحياة".
وفي تصريحات لوكالة قدس نت للأنباء، أوضح أبو القمصان أن العروض السينمائية التي تقيمها المبادرة في ظل العدوان ليست ترفًا، بل محاولة علاج نفسي بالفرح، قائلاً: "حتى لو لساعات قليلة، نريد أن ينسى الأطفال صوت الطائرات ويستبدلوه بضحكاتهم… السينما هنا مقاومة، وليست ترفيهًا".
وأضاف: "نصنع لحظة فرح حقيقية بوسائل بسيطة: ألوان، موسيقى، قصص. لكن في غزة، ضحكة طفل تُشبه إشعال شمعة في عاصفة… الفرح هنا مقاومة عنيدة ضد القبح والدمار، ورفض لأن تُسرق الطفولة".
الفرح كفعل مقاوم
وسرد أبو القمصان مشهدًا لخص فيه ما وصفه بـ"المقاومة بالفرح"، حين شاهد طفلة تهمس لأخيها خلال عرض سينمائي: "انظر، هذه الدببة لا تخاف من القصف!"، مؤكدًا أن مثل هذه اللحظات تثبت أن "الأمل يُزرع حتى وسط الخراب، وأن المحتل لا يمكنه قتل الأحلام".
وتابع: "سألني طفل بعد أحد العروض: هل يمكنني أن أصنع فيلمًا مثل هذا؟ في عينيه لم أرَ خوفًا، بل إصرارًا على الحلم. هنا، الانتصار ليس فقط البقاء… بل الحفاظ على القدرة على الإبداع رغم كل شيء".
تفاصيل يومية تُصبح إنجازات
وتحدث أبو القمصان عن التحديات "المعجزة" التي تواجههم يوميًا لتقديم العرض، قائلاً: "في غزة، تأمين كرسي بلاستيكي مريح للأطفال أو ورقة للرسم يحتاج تخطيطًا. تشغيل فيلم دون كهرباء؟ استخدمنا مولدًا صغيرًا بوقود نادر. تأمين مكان آمن؟ اخترنا ساحة بين الأنقاض وحوّطناها بستائر قديمة. حتى الحلوى، أصبح توزيعها إنجازًا بطوليًا وسط أسواق شبه فارغة".
كشف أبو القمصان أن المبادرة تخطط لتوسيع أنشطتها، لتشمل: خيم سينما متنقلة في مخيمات النزوح، ورش رسم وسرد للأطفال الأيتام أو ممن فقدوا ذويهم، مشروع “سينما تحت القصف”، يُشبه قاعات السينما التي كانت تُقام في سراديب الحرب العالمية الثانية، "لأن الفرح يجب أن يصل إلى كل زاوية، ولو وسط الأنقاض".
رسالة إلى العالم: لا تشفقوا… تعلّموا من أطفال غزة
وختم أبو القمصان رسالته قائلاً: "لا نريد الشفقة، بل الاحترام. أطفال غزة يعلّمون العالم معنى الصمود الحقيقي… إنسان يغني فوق الركام، لا يستسلم، لا ينكسر. هذه ليست مجرد عروض، إنها رسائل مقاومة ناطقة بالفرح. كفى صمتًا… دعمكم لفرحنا ليس تضامنًا فقط، بل واجب إنساني".
وأضاف: "غزة لن تتحول إلى سجن للذاكرة والوجع… سنصنع منها مسرحًا للأمل، ولو بحبل غسيل وشاشة ممزقة".
شهادات حيّة: كيف يرى الأطفال الفرح في غزة؟
وقامت مراسلة وكالة قدس نت للأنباء بالحديث مع بعض الأطفال خلال العروض. وقالت لينا (7 سنوات): "أول مرة ما غطّيت أذني لما سمعنا صوت عالي".
كانت لينا تمسك يد شقيقها الصغير بإحكام، تحدق في شاشة العرض وكأنها لا تصدق ما يحدث. بعد انتهاء الفيلم، قالت بصوت خافت: "أنا دايمًا بخاف من الصوت العالي، دايمًا بغطي أذني… بس اليوم، لما الكل ضحك بصوت عالي، ما خفت، بالعكس ضحكت معهم. حسيت إنه يمكن في صوت غير صوت القصف." ثم همست وهي تبتسم: "لو نقدر نعيد الفيلم كل يوم، يمكن ننسى الحرب شوي".
أما الطفل محمود (9 سنوات): "أنا كمان بدي أعمل فيلم زي هادا ... بس عن غزة، بدون حرب وبدون جوع". وأضاف وهو يشير إلى الشاشة: "لو كان عندي كاميرا، كنت صورت جدتي وهي تطبخ، وأختي لما ترسم… وأبي لما يرجع من المستشفى. هاي الأشياء اللي بحبها، بس محدا بيشوفها".
أما سارة فقالت وهي تحتضن قطعة الحلوى التي وزعوها بعد العرض: "أنا طول الليل بحلم إنو البيت ينقصف، أو إني أضيع… بس بعد الفيلم راح انام وما راح اكون خايفة اني احلم احلام بتخوف.
عمر (10 سنوات): "كأننا رجعنا أطفال، حتى لو بس لساعتين". جلس عمر مع أصدقائه قرب الحائط بعد العرض، يضحكون ويقلدون أحد مشاهد الفيلم. قال بنبرة ناضجة أكبر من سنه: "أنا صارلي زمان ما حسّيت حالي طفل… يمكن من وقت ما فقدنا بيتنا. بس اليوم حسّيت إني زي قبل، بلعب، وبضحك، وبنسى إنو في حرب".
وأضاف وهو يحدّق في الأفق: "لو كل أسبوع نعمل هيك شي، يمكن نقدر نعيش، مش بس ننجو. لأن في فرق كبير".
تأتي مبادرة "بكفي بدنا نفرح" كجزء من جهد ثقافي أوسع لتكريس الحق في الحياة والكرامة وسط واقع استثنائي يفرضه الاحتلال والحرب. في ظل انهيار البنية التحتية وتراجع مقومات الحياة الأساسية، يبرز الفرح كمساحة نادرة لاستعادة التوازن النفسي والاجتماعي للأطفال، ويغدو النشاط الثقافي ضرورة ملحّة لا ترفًا. وبينما تُقاوِم غزة بالثبات والدم، تُقاوِم أيضًا بالضحكة واللون والحكاية، لتؤكد أن الوعي الجمعي لا يُهزم، وأن الطفولة، مهما حاولوا اغتيالها، قادرة على النجاة بأبسط أدواتها: فيلم، ورقة، وشاشة ممزقة.