أحمد زقوت - مع اشتداد الحصار الإسرائيلي الخانق على قطاع غزة منذ أكثر من شهرين، وتوقف دخول المواد الغذائية والمساعدات الإنسانية، باتت الأسواق تعاني من نقص حاد في السلع الأساسية، ما دفع الكثير من السكان إلى إحياء "نظام المقايضة" كوسيلة بديلة لتأمين احتياجاتهم في ظل غياب النقود وفقدانها لقيمتها الفعلية.
ومع ندرة السلع وارتفاع أسعارها بشكل جنوني، أصبح مشهد "التبادل العيني" جزءاً من الحياة اليومية، سواء في الأسواق الشعبية أو عبر منصات التواصل الاجتماعي، حيث تنتشر منشورات من قبيل: "أبدّل ثلاجة بكيس طحين"، أو "كيس سكر مقابل حليب أطفال"، أو حتى "ملابس جديدة مقابل عبوة غاز"، ما حولها إلى وسيلة مقاومة يومية للبقاء في وجه الجوع والخنق الاقتصادي.
الفلسطيني مهدي سرور، أب لستة أطفال من سكان شمال قطاع غزة، يعاني كما الكثير من أهالي القطاع من تداعيات الأزمة الإنسانية الخانقة التي اشتدت بفعل الحرب والحصار المستمر، يقول لـ "قدس نت": "النقود لم تعد وسيلة فعالة وسط ندرة السلع وارتفاع أسعارها، فلجأت إلى المقايضة لتأمين الغذاء لأسرتي"، مضيفاً أنني "عرضت كمية من البقوليات مقابل خبز على مواقع التواصل الاجتماعي، بعدما أصبح شراء الطحين أمراً بعيد المنال بسبب ارتفاع سعره بشكل باهظ".
ويؤكد سرور، أنّ "الأطفال لا يفهمون تعقيدات الاقتصاد أو شح الموارد، بل يشعرون فقط بالجوع"، مشيراً إلى أنّ "تأمين لقمة العيش بات التحدي الأكبر في ظل واقع يزداد قسوة".
من جانبها، تروي أم أحمد محيسن، وهي نازحة من حي الشجاعية وأم لثلاثة أطفال، فصلاً من فصول المعاناة اليومية التي تعيشها في سبيل تأمين لقمة العيش لأطفالها، مشيرة إلى أنها اضطرت إلى استبدال كيلوغرام من العدس بنصف كيلو من السكر، في ظل غياب السيولة النقدية لديها.
وتوضح محيسن في حديثها لموقع "قدس نت"، أنّ رصيدها المالي بات بلا قيمة بفعل عمولات السحب الباهظة، ما جعل المقايضة خياراً اضطرارياً للبقاء، رغم عدم تكافؤ القيمة، لافتةً إلى أنّ "موجة الغلاء وغياب الدخل حوّلا تأمين أبسط الاحتياجات إلى معركة يومية من أجل البقاء".
أما بشير حمادة، فوجد نفسه مضطراً إلى اتخاذ قرار مؤلم، بعرض ثلاجته المنزلية مقابل كيس من الطحين، عبر أحد جروبات مواقع التواصل الاجتماعي، بعدما نفد آخر كيلو دقيق كان بحوزته، وبالنسبة له، لم يعد يفكر في الاحتفاظ بما كان يُعدّ يوماً من ضروريات الحياة، بعدما بات تأمين الغذاء أولوية قصوى، حتى وإن تطلّب الأمر التخلي عن مقتنيات شخصية ثمينة، فالثلاجة، التي كانت يوماً رمزاً للاستقرار المنزلي، أضحت اليوم عبئاً صامتاً في زاوية معتمة، لا تُقارن قيمتها بشيء أمام صرخة جوع طفل في البيت.
ورغم فداحة الخسارة التي تكبدها نتيجة مقايضة سلعة ثمينة بمادة غذائية كانت تُباع سابقاً بأسعار زهيدة، يرى حمادة في كيس الطحين "كنزاً مفقوداً" لا يُقدّر بثمن، فقد تجاوز سعر الكيس الواحد، الذي يزن 25 كيلوغراماً، حاجز 1500 شيكل- أي ما يعادل أكثر من 400 دولار أمريكي- مبلغ يفوق بكثير قدرة معظم العائلات في القطاع المحاصر، ما يجعل الحصول عليه أشبه بالمعجزة في ظل الأوضاع الاقتصادية الصعبة.
من جهتها، المواطنة ابتهال أبو ندى كشفت عن واقع مرير لا مفر منه، حيث اضطرت إلى بيع ملابسها الجديدة لتأمين حليب طفلها وحفاضاته وبعض المستلزمات الضرورية التي باتت تفوق كل شيء أهمية.
وتبين أبو ندى في حديثها مع "قدس نت"، أنّ الأوضاع وصلت إلى مستوى لا يُصدَّق من الصعوبة، مؤكدة أن اضطرار أم لبيع ملابسها يعني أنها وصلت إلى ذروة الفقر واليأس الاقتصادي.
وتلفت إلى أنّ هذا الواقع المرير ليس استثناءً، بل يعكس معاناة آلاف النساء في غزة، اللواتي تجبرهن المجاعة وندرة المواد الأساسية على التضحية بممتلكاتهن الشخصية من أجل إطعام أطفالهن، خاصة في ظل الانهيار المعيشي الكامل الذي تفاقم بفعل الحرب المستمرة.
ومع تفاقم أزمة السيولة في غزة، لجأت المحال والبسطات إلى المقايضة كحل ضروري، علاء أبو جلهوم، بائع في سوق الصحابة، يؤكد لـ "قدس نت" أنّه يبادل السكر بالزيت أو الدقيق بالتونة، لمساعدة الزبائن الذين لا يملكون المال، مشيراً إلى أنّ الطلب يتركز على الدقيق والسكر والزيت، وأنّ المقايضة باتت منتشرة بفعل الجوع وغياب النقد.
وكشف مسح للجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني أن البطالة في قطاع غزة بلغت 68% وفي الضفة الغربية 31% بسبب العدوان الإسرائيلي المستمر منذ 7 تشرين الأول 2023، كما يعاني القطاع أيضاً من شلل النظام البنكي وتوقف الرواتب، مع غياب المساعدات الدولية الكافية، مما يعكس عمق الأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي يواجهها سكان القطاع.
ويشير مختصون إلى أن عودة المقايضة لا تعكس فقط قدرة سكان غزة على التكيف مع واقع الحصار والمجاعة، بل تُعتبر مؤشراً خطيراً يُبرز حجم الانهيار الشامل الذي أصاب البنية الاقتصادية والإنسانية في القطاع.
بدوره، يرى المحلل الاقتصادي نائل موسى في حديثه لـ"قدس نت" أنّ انتشار ظاهرة المقايضة يعكس انهياراً واسعاً في الاقتصاد المحلي نتيجة الحرب والفقر والبطالة، كما حدث في دول أخرى مثل سوريا والصومال، مشيراً إلى أنّ الحرب الحالية زادت من حدة الفقر في غزة، بعد تدمير مصادر دخل آلاف الأسر واستنزاف مدخراتهم لتلبية الاحتياجات الأساسية.
ويُبرز موسى أن العمولات المرتفعة على السحب من الحسابات البنكية، التي تصل أحياناً إلى 35%، تجعل السحب غير مجدٍ مالياً، مما دفع الناس لاعتماد المقايضة "الاقتصاد التبادلي بدلاً من الإنتاجي" كحل بديل، موضحاً المقايضة تعكس ليس فقط نقص السيولة، بل أيضاً فقر الموارد، حيث يتبادل الناس سلعاً غالباً ما تكون مساعدات إنسانية للحصول على ما يحتاجون إليه.
ويؤكد موسى أن المقايضة يبقي سكان غزة في دائرة مغلقة من تبادل الاحتياجات دون تحقيق أي تحسُّن اقتصادي، مشدداً على ضرورة معالجة جذرية تشمل وقف الحرب، فتح المعابر، وحل مشكلة السيولة والعمولات المرتفعة.