بقلم: عيسى قراقع الابادة الصهيونية الجارية في فلسطين ليست على الوعي والرواية، ولا لكسب التعاطف والتأييد لهذه السردية او تلك، وليست لتعديل موازين القوى، ليست صراعا بين الحضارة والهمجية، ولا حتى صراعا بين الارض والسماء في النصوص الدينية، انها ابادة موجهة الى الخالق العظيم، بأن من خلقتهم من غير اليهود في فلسطين، الاغيار والبربريين والارهابيين، كان خطأ الهي يجب تصحيحه بالسيف والمدفعية.
الابادة تقول: يا شعب فلسطين لقد عدنا، عاد شمشون ليقضي على دليلة الفلسطينية، اخرجوا وارحلوا، صواريخنا تهدر وقنابلنا المتفجرة، اخرجوا من الحياة فلا تفاوض على حياتكم الا بالموت او البندقية.
لم تعد الحرب تكثيفا للسياسة، ولا مجرد هدنة لتحقيق انجازات وانتصارات او هيمنة، ولم تعد لتحقيق مصالح اقتصادية وجمع الثروات والذهب، فالصراع الان على الحياة، هناك من يجب ان يحيا وهناك من يجب ان يموت، وعلى الاقوياء ان يقصفوا اعمار الضعفاء ويهدروها قصفا ومسحا وتعذيبا، اغتصابا وخنقا وسلخا وتنظيفا، جسدا وذاكرة، ماضيا وحاضرا ومستقبلا.
المطلوب ان يموت الفلسطيني، ليس موتا عاديا، بل قتلا وثأرا وانتقاما ونسفا وجوعا وحرقا، ليس موتا بالضغط او الابتزاز او الحصار، ولا بالقهر واليأس والطرد والسجن، بل اخفاء وتمزيقا، تطهيرا والغاء من الخارطة السياسية وحتى من النقاش ومن الخيال، ان لا يكون الفلسطيني موجودا، هذه هي تعاليم الرب اليهودي والصهيونية الدينية العنيفة، لا مجال للتفاوض مع هذا الرب المسلح الذي يقاتل بالتوراة والنار والحديد.
الابادة شطبت كل تلك المفاهيم الاخلاقية والاسئلة القانونية حول القيمة العليا والاسمى للحياة، تحولت الى ادنى قيمة تحت جنازير الدبابات في قطاع غزة، فقيمة الحياة اصبحت تساوي شطب الحياة، وكل ما يقال عن الكرامة الانسانية اصبح بلا معنى، فالابادة القادمة من عصور الجحيم لا تسمع ولا ترى، ولا تسمح لاحد ان يفكر بالحياة والحرية، ولا حتى بالقضاء والقدر، جحيم ثم جحيم الى اخر جحيم.
البلدوزر في غزة، الفولاذ واللهب ورائحة اللحم البشري والجوع، الابادة لا تسعى الى هزيمة الفلسطينيين او اضعافهم او انهاكهم، لا تطلب راية استسلام بيضاء، بل اخفاء ودفن الفلسطينيين، ازالة الحضور بالغياب، والقضاء على تهديد كل من عاش تحت الاحتلال، حتى لا ينبثق جيل اخر من ازقة النسيان.
ابادة وهستيريا وجنون، من دير ياسين حتى غزة، اقتلوا النساء فلا زلن يحبلن بالامل، اقتلوا الامل فما زال يبرق في عيون الاطفال، اقتلوا الاطفال فما زالوا يحملون الحجارة، اقتلوا الحجارة فما زالت ترفع عمود البيت في الذاكرة، اقتلوا كل شيء، لا تفتحوا حوارا الا مع الموت والعدم.
الابادة هي النهاية، نهاية مئات القرارات الدولية، نهاية شرائع حقوق الانسان، نهاية جلسات التفاوض العبثية، نهاية كافة سيناريوهات الحلول السياسية للصراع، نهاية هذه المؤتمرات والجلسات والتدخلات الدبلوماسية، نهاية فلسفة العدالة من ارسطو حتى محمود درويش، نهاية الثقافة والديمقراطية، اغلاق ابواب المفكرين المصلحين وحاملي جوائز السلام، انه دين جديد، دين الموت، دين الجريمة المنظمة، وعلى كل العباد ان يذهبوا الى غزة وليس الى مكة، ليؤدوا طقوس الموت قاتلين او مقتولين.
لا تفاوض في حُمى الابادة، لا هدنة، وان كانت فهي هدنة الميتين حتى ينظف القاتل وجهه، هدنة الشهيد الذي يبحث عن قبره، الموت مرايا بلا وصايا، وكل يرى في غزة نفسه، عزلة ابدية، دفن السماء بالتراب والجثث، وكل من يتكلم يرى الضحية فيه لا تشبه الضحايا، كل يخرج من موته الى موته دخانا او شظايا.
الابادة تقول: لا يكفي نهب الارض وبناء المستوطنات، لا يكفي ان يحشر الفلسطينيون في معازل ومصائد ونذلهم على الحواجز العسكرية، لا يكفي ان نعذبهم ونطحنهم في السجون والمعسكرات، نحتاج الى الابادة، ارسال الفلسطينيين الى ما وراء الوراء، الى قاع الظلام والى ابعد مدى، لا همس ولا صمت ولا اشباح ولا صدى.
توقفوا عن الحديث عن حل الدولتين او الدولة الواحدة، توقفوا عن تركيب اطراف اصطناعية لحكم ذاتي بلا سيادة، توقفوا عن الحوار حول المخيمات واللاجئين وحق العودة، تراهات مزعجة، هنا الابادة، اصهروهم في النار، حتى يصيروا رمادا، اصهروهم حتى لا يعود الحمام الى صوته في اعالي الشجر، اصهروهم حتى لا يجدوا من يصلي عليهم ويطلب الرحمة، هنا الابادة، لا نريديهم حتى ظلالا، اصهروهم حتى تتلاشى رائحتهم من التراب ومن اللغة ويصيروا سرابا.
الابادة استاذ جاء من المانيا النازية، وعندما سجنت الصهيونية الله في توراتها اصبح كل شيء مباحا، الحياة قابلة للتصفية، لا شرعية دولية، ولا محكمة جنائية، القتل طليق وحر ومفتوح، القتل لا توقفه الاحكام والمعايير والشهود، الكل في المحرقة، نظام دولي جديد، تشكيلات مشوهة للانسان وللارض وللطبيعة، حدود دموية بين الوطن الخرافي والوطن الواقعي، حدود لا فاصل لها بين مجزرة ومجزرة.
الابادة لا تحتاج الى ضمير انساني، تحتاج الى وهم يستطيع ان يركب ذاكرة وهوية واسطورة مختلقة، تحتاج الى عميان وشياطين ووحوش لا يقدرون على التعايش مع الجمال والاغنية، ابادة نقية تمسح الاخرين، لا تهتم بالاحصائيات والارقام المجردة، او بما تخسره في هذه الحرب اخلاقيا وانسانيا، لا قيمة مطلقة للحياة البشرية، الابادة لا شريك لها الا الابادة، استئصال كل مولود وولد، وعلى كل الذين وجدوا استثناء وشذوذا على هذه الارض ان يغيبوا حتى يرتاح الله في سمواته السابعة.
ابيدوهم، لا توقعوا معهم على اي معاهدة، حقوقهم تحاصرنا وتعزلنا، الاعتراف بهم يعذبنا، يلغي شرعيتنا، السلام لنا وحدنا، لا فرق بين صوت الطفل وصوت القنبلة، سلامنا يمتلئ من فراغ ارواحهم وعلينا ان ننتج ادب الابادة، ونعلم اولادنا كيف يصعدوا التلال فوق الجثث، ان يبدعوا فن اطلاق الرصاص في الكتابة.
الابادة ليست على اختلاف الرؤى وتفسير الحقوق التاريخية، ليست على حق تقرير المصير لهذا الطرف او ذاك، ليست تنظيرات سياسية او اكاديمية، الابادة لا تعطي الوقت لتحميل المسؤوليات او التعلم من الخبرات، الابادة لا تريد سوى ان يبقى واحد وحيد على هذه الارض، اليهود الانقياء خلفاء الله، صوته الهادر في الطائرات والصواريخ، هندسة الخراب الذي نراه ولا نراه.
ايها الاباديون الملوثون، هل انتصرتم علينا؟ هل انتصرنا عليكم؟ اكتملت رحلتكم في اجسادنا وابتسمت تل ابيب، ولكني احسب انكم في مخيم الدهيشة لم تجدوا شارعا للحراسة، واحسب اننا شعب نقوم الف مرة من القيامة، واحسب ان في فلسطين كل موت روح وجسد وحقيقة، وصدقونا للمرة الاخيرة ان موتنا الكبير هزم دولتكم الكبيرة، حلمنا يدل علينا، هنا نحيا وهنا نموت، وفي حياتنا تموتون كلما دقت اجراس البحر وعلى سواحلنا نتمدد، ينهض موتانا ويدور الزمن، تنكسر الدئرة، فإذا كان عندكم اله واحد مجنون، فكلنا آلهة.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت