في يوم النكسة المناضل بشير خيري يستعيد بيته وكفه المشوهة في الرملة

بقلم: عيسى قراقع

عيسى قراقع.jpg

بقلم عيسى قراقع :- وجها لوجه، المنكوبون والنازحون والمطرودون من حياتهم، يلتقون مع حياتهم مرة اخرى، يتجاوزون حدود الهزيمة ويواجهون الدخيل والناهب والسارق والارض الجريحة، هنا صوت لا زال يتنفس في المكان، فرح حزين يستقبل العائدين الذين جرفوا من بيوتهم عام النكبة.

بعد النكسة عام 1967 قرر المناضل القائد بشير خيري ان يزور بيته في مسقط رأسه مدينة الرملة، بيت الطفولة والاجداد، ركب الباص من رام الله الى الرملة، خرج من قاعة عرض مسرحية حفلة سمر من اجل خمسة حزيران للكاتب سعد الله ونوس، رفض ان يبقى متفرجا على ارض المسرح المذبوح، انا الحقيقة الواضحة، انا اللاجئ والاسير والمقاتل والمنفي والعائد، قال بشير، لملمت كل هذه الفجائع وحملت ذكرياتي وشهادة ميلادي وكوشاني وعدت الى مديتني الرملة، اوجاعي دليلي، جسدي يرتعش، ولن يهدأ حتى اعثر على بيتي وكفي التي مزقتها قنابل العصابات الصهيونية منذ ان كنت طفلا العب في شوارع الرملة، سأجد كل شيء هناك، بيتي وظلالي ويدي واصابعي فوق التراب.

وانا اقرأ مذكرات خفقات ذاكرة للمناضل بشير خيري، رافقته خطوة خطوة، كلمة كلمة، كنا معا في سجن رام الله في بداية الثمانينيات، وهناك ودعنا الشهيد خليل ابو خديجة الذي طوى روحه بين النافذة والسماء المسيجة، والتقينا مرة اخرى في بداية الانتفاضة الاولى عام 1987 في سجن عتليت الرهيب، وكانت ليلة باردة، نمنا على فرشة متعفنة، كان بشير هادئا مبتسما، يراقب بصبر عربدات السجانين المسلحين بالغاز والهراوات وهم يفتشون بكل جسد عن الحجارة في قلب الانتفاضة، ورحلت معه الى سجن جنيد في نابلس، وهناك قررت سلطات الاحتلال ابعاده الى الخارج مع اربعة آخرين وهم جبريل الرجوب. وحسام خضر وبشير نافع وجمال جبارة.

وكانت من اصعب لحظات الوداع، وقف الاسرى جميعهم على الابواب، مر المبعدون من بيننا، وبدأنا نهتف: نعم لن نموت ولكننا سنقتلع الموت من ارضنا، وغادرنا بشير، ولما عاد من المنفى عثرت عليه في مدينة رام الله، كان يجلس في ساحة اعتصام اهالي الاسرى، صافحته بحرارة، قال لي: لقد استعدت بيتي وكفي في الرملة.
رفض بشير خيري ان يبقى ضائعا وتائها كسعيد ابي النحس المتشائل في رائعة اميل حبيبي، ورفض ان يبقى صامتا ولا يقرع جدران الخزان في رائعة غسان كنفاني، كان يدرك ان الحروب لها اتجاهات متعاكسة، وان الذي يحسب ان النكبة طمست المكان والهوية فهو المهزوم الذي تخلى طوعا عن البطل الكامن في عيون الضحية.
لن اعبر شرقي النهر مرة ثانية، سأذهب الى الرملة، وأركب في الباص من القدس، لا زالت ذاكرتي تتدفق وحيّة، اتبع احلامي فأراها، وتتبعنا حتى يصحو التاريخ في عظامي، وقد وصلت الرملة، قطعت هذا الطريق الطويل الذي لم تقطعه الجيوش العربية، انفجرت روحي من حطامي، هنا المدرسة الثانوية، الدير، الجامع، سوق الخضار، دار البلدية، ديوان العائلة، النبي صالح، هنا كنت العب الكرة، وهناك زيتونة اصاغت كلامي.

دق بشير خيري على باب بيته، وقال لدالية اليهودية التي فتحت الباب" انا صاحب هذا البيت، جئت كي استعيده وأراه، وكانت الصدمة والدهشة، دالية استقبلته بحيرة وارباك، من هذا القادم الذي يقتحم عالمها؟ لا يحمل سلاحا وانما ذاكرة، سقطت هشاشة الصورة، وتناثرت على عتبات البيت كل الاسئلة.

قال بشير: لو كل فلسطيني دق باب بيته لاستعاد ذاته المكسورة، البيت هو الوطن، والبيوت تموت اذا غاب سكانها كما قال محمود درويش، اذهبوا الى بيوتكم، واكشطوا الاسماء على الخرائط الاسرائيلية لتظهر فلسطين الممحوة، ازيلو اشجار الصنوبر لتظهر تحتها القرى المدمرة، إقتحموا الكولونيالية  من الداخل، أزيلوا الوهم من رؤوس الاسرائيليين وايديولوجيتهم الاستعمارية، الفلسطيني ليس بغائب، انه موجود وحاضر وحي.

دالية اليهودية شعرت انها غريبة، البيت ليس لها،بشير يعرفه اكثر منها، الشبابيك وشجرة الليمون، حنفية الماء، المكان يتكلم معه بحميمية، البيت يراه ولا يراني، الماضي يعود مرة واحدة، التاريخ الفلسطيني دخل مع بشير منذ ان فتحت له الباب، اصوات اخوته وجيرانه والعابه تتكلم معه، مشاعر وحنين وعناق وحب لم أتعلمها في المعسكر او الجامعة، القادم الى بيته ليس ضيفا، انه صاحب ملكية، وذو حق غير قابل للتصرف.

بشير في بيته، يتفقد وسائده وملابسه وحجارته وأشيائه الصغيرة، يبكي ويعتذر عن تأخره، يسمع   قلبه وينادي: هنا انفجرت العبوة التي زرعتها العصابات الصهيونية في يدي، هنا دمي يسيل على العشب والحصى، هنا ثوب أمي، رائحة القهوة، خبز الطابون، الشاي بالنعناع، وظل بشير ينادي: كيف يطردوني ويذبحوني ويناموا مطمئنين في قبري؟

أدرك بشير أن هذا البيت، هذا الوطن لن يستعاد بدون صراخ ومقاومة، المفاتيح العتيقة، والكوفية والقمباز والدبكة الشعبية ليست بديلا عن حق العودة، العودة ليست خيالات فولكلورية . فمن يستولي على البيت يستولي على الثقافة والوعي يرتكب أبشع أشكال التطهير والإبادة، فانضم بشير إلى العمل الفدائي، وقضى أكثر من 16 عاما في سجون الاحتلال، ولما خرج من السجن، تحسس ندوبه على جسده، الجرح في يده، ووخزات الأسلاك الشائكة، ولما زارته دالية قالت، الآن أدركت أنكم أحق شعب بالسيادة أخلاقيا وإنسانيا على أرضكم، التي ما زالت شظاياها في أرواحكم متناثرة.

كانت شجاعة أخلاقية من دالية بالانحياز الى الضحية، وكانت شجاعة أن تطلب من بشير ضرورة اقتحام المجتمع الإسرائيلي لتحرير وعيه من الخرافات والأساطير والفاشية، كي يقف أمام المرآة ليرى تاريخه الاستعماري العنيف، وكانت شجاعة أن يتبلور تيار فكري وسياسي إسرائيلي يدعو إلى الاعتراف بالنكبة، رغم أن هذا التيار بدأ يتلاشى أمام هول الابادة الدموية في غزة، حيث تتجدد النكبة، ويختفي صوت دالية في دوي القنابل والصواريخ وأكوام الجثث.

تكتب دالية: بشير خيري علمني أن هناك ارتباطا عميقا بين الفلسطيني والأرض وهذا ما نفقده نحن الإسرائيليين، إنه مخالف لكل ما تربيت عليه، لم أدرك أن في بيت بشير كل هذا الجمال إلا من خلاله، فقد شعرت أن بشير حرر البيت وحرر ضميري، وعلى الإسرائيليين أن يصبحوا أكثر إدراكاً لنكبته ويتمردوا على المستوى الرسمي الذي ينكرها، ولو فتحنا ابوابنا للاجئين واعترفنا انهم من هذه الارض، سنشهد تغيرا عميقا في طريقة تعاملنا مع بعضنا البعض، قادرون على العيش سوية جنبا الى جنب وان نكف عن القتال.

انا دالية اليهودية، منذ ان دخل بشير بيته في الرملة شعرت انني لست مالك هذا البيت، واننا لم نأت لنسكن بيوت الفلسطينيين صدفة وانما لمنع عودة اللاجئين الى بيوتهم التي طردوا منها، لهذا قررت ان اعيد البيت الى بشير، وان لم استطع بسبب قانون النكبة وقانون املاك الغائبين، سأعقد شراكة مع بشير واتفاق بأن يتحول هذا البيت الى روضة للاطفال الفلسطينيين في مدينة الرملة.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت