أحمد زقوت :- في ظل القصف المتواصل والانهيار الكامل للبنية التحتية، يعيش سكان قطاع غزة واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية، حيث يلاحقهم العطش مع ندرة المياه النظيفة.
ومنذ بدء العدوان الإسرائيلي المتواصل، دخلت غزة مرحلة حرجة من العطش الجماعي، وسط تدمير متعمد لشبكات المياه والصرف الصحي، وتعطّل محطات التحلية، وانقطاع الكهرباء، ما زاد من معاناة أكثر من مليونيّ نسمة.
مياه غير صالحة.. وإن وجدت
في حيّ النصر غرب مدينة غزة، حيث تتحوّل الحياة اليومية إلى صراع من أجل البقاء، يقف المواطن أبو حسن النجار أمام خزان مياه بلاستيكي مغطى بقطعة قماش مبلّلة لحمايته من حرارة الشمس، وهو يتأمل في قلق ما تبقّى من مياهه القليلة.
يقول النجار، بنبرة مشوبة بالغضب واليأس: "صرنا نشتري الماء من الباعة المتجولين بأسعار مضاعفة، برغم أنها غير صالحة للشرب، فيها طعم غريب ومر، لكننا مضطرون، العطش يقتل، ولا أحد يسأل عنا"، مضيفاً أنّ "أزمة المياه بدأت تتفاقم منذ اندلاع الحرب في أكتوبر 2023، ومنذ ذلك الحين ونحن نعاني من عطش شديد، فالمياه أصبحت نادرة، وكل قطرة نحسب لها ألف حساب، ولا يمكنك الاستغناء عنها، سواء كانت المياه البلدية أو المحلاة".
ويتابع خلال حديثه إلى "قدس نت": "مياه البلدية مقطوعة منذ ما يقارب 20 شهراً، بعد أن دمّرت الغارات الإسرائيلية المحطات والآبار المحيطة بالمنطقة، ولم تُصلّح حتى اليوم"، مشيراً إلى أنّ "المياه المحلاة التي كانت تصلنا عبر صهاريج الأمم المتحدة، فهي الأخرى اختفت منذ أيام، وكأننا خارج حسابات العالم".
وفي زقاق آخر قريب، تجلس المواطنة شهد العطل بجانب مجموعة من غالونات المياه الفارغة، في انتظار دورها على نقطة توزيع نادرة للمياه المحلاة، توضح بصوتٍ متعب لـ "قدس نت": "كل يوم نخرج في رحلة شقاء لتعبئة الماء، ننتظر ساعات، وأحياناً نرجع خاليين، وإذا حالفنا الحظ، نعبئ 20 لتراً فقط لا تكفينا، وأحياناً نضطر نستخدمها للطهي والغسيل والشرب، وكلها بماء واحد".
وتُشير العطل إلى أنّ "النساء في الحي هنّ الأكثر تضرراً من أزمة المياه، حيث نتحمّل العبء الأكبر، من تنظيف الأطفال، وللطهي، وللتنظيف، ونُضطر أحياناً لاستخدام مياه ملوّثة لغسل الأواني أو الاستحمام، ولا أحد يشعر بنا، وكل ما نريده هو المياه والطعام في الوقت الراهن".
وتبين العطل بحسرة، أنّ ""المؤلم أكثر هو أن الماء صار عبئاً فوق عبء الحرب، حيث كنا نظن أن أصعب ما في الحرب هو الخوف من القصف، لكن تبيّن أن العطش والحرمان اليومي أقسى وأطول".
نقص الوقود وانقطاع التواصل
ولفهم أعمق لطبيعة أزمة المياه، تواصلت "قدس نت" مع عبد الكريم السلي، أحد سائقي شاحنات المياه المحلاة المدعومة من منظمات إنسانية، إذ يؤكد أنّ "ندرة المياه تعود إلى النقص الحاد في الوقود وتعذر توفر قطع الغيار اللازمة لصيانة الشاحنات ومحطات التحلية".
ويشير السلي إلى أنّ "الاحتلال يتعمد استهداف محطات ضخ المياه ومنشآت البنية التحتية، في إطار سياسة ممنهجة لتعطيش سكان القطاع، وفرض واقع معيشي لا يُحتمل"، مبيناً أنّه "مع الانقطاع المتكرر للاتصالات والإنترنت، أصبح من شبه المستحيل على المؤسسات الإنسانية والمبادرين التنسيق معنا، كما أن أزمة السيولة وغياب وسائل الدفع الإلكتروني تفاقم الأزمة، فحتى عندما نؤمن المياه، لا نجد وسيلة لتلقي ثمنها بسبب العمولات المرتفعة وانعدام الخدمات الرقمية".
أقل من 10 لترات يوميًا
وبشأن هذه الأزمة، يقول مدير دائرة المصادر في سلطة المياه وجودة البيئة د. منذر سالم، لـ "قدس نت"، إنّ "الحرب دمرت أكثر من 90% من البنية التحتية للمياه والصرف الصحي في غزة، خاصة في الشمال، حيث تعرضت الآبار والأنابيب للتدمير، مما أدى إلى تدفق مياه الصرف الصحي في الشوارع والمناطق السكنية"، مضيفاً أنّ "المواطنين يعانون في غزة من نقص حاد في مياه الشرب، حيث انخفض نصيب الفرد من المياه من 120 لترًا يوميًا حسب التنصيف العالمي إلى أقل من 10 لترات، ما يدفعهم للاعتماد على المياه المحلاة المكلفة أو المياه غير المكررة من الغواطس الملوثة، مما أدى إلى تفشي الأمراض مثل الإسهال والنزلات المعوية".
ويقترح سالم، حلولاً لمواجهة أزمة المياه، منها زيادة قدرة محطات التحلية، وتوسيع توزيع المياه المحلاة عبر العربات النقالة، وإنشاء محطات تحلية صغيرة بالمناطق المتضررة، مع ضمان الرقابة المستمرة على جودة المياه، وتأمين دعم دولي للمعدات والوقود لتشغيل المحطات وإصلاح شبكات المياه والصرف الصحي.
عطش جماعي وكارثة بيئية وصحية
من جهته، يحذر المتحدث باسم بلدية غزة عاصم النبيه، من حدوث أزمة مياه كبيرة بسبب استمرار تقليص كميات الوقود التي تصل للبلدية والتي لا تكفي لتشغيل آبار المياه التابعة للبلدية لساعات كافية لتوفير الحد الأدنى من المياه، بالإضافة إلى عدم توفر وقود لتوزيعه على أصحاب الآبار الخاصة في المناطق التي لا تصلها المياه.
ويقول النبيه لـ "قدس نت"، إنه "ومع استمرار نزوح المواطنين من داخل المدينة ومن خارجها من المحافظة الشمالية لمناطق وسط وغرب المدينة وارتفاع درجات الحرارة وتزايد الحاجة للمياه وتقلص كميات الوقود قد تؤدي هذه العوامل كلها إلى أزمة مياه وحدوث حالة عطش إذا لم يتم تدارك الأوضاع وتوفير كميات وقود كافية لتشغيل الآبار".
ويلفت المتحدث إلى أنّ غزة تواجه كارثة بيئية وصحية غير مسبوقة بسبب الدمار الشامل الذي طال بنيتها التحتية، ما أدى إلى تلوث المياه وانتشار النفايات وانهيار شبكات الصرف الصحي، ما يتطلب جهودًا عاجلة محليًا ودوليًا لتوفير الوقود والمعدات وإعادة تأهيل البنية التحتية، لضمان بيئة أكثر أمانًا وصحة للسكان.
ومع تفاقم الأزمة، تطالب المؤسسات المحلية والدولية بفتح ممرات إنسانية آمنة لإدخال شحنات مياه وأدوات تنقية ومحروقات لتشغيل المحطات، في ظل تحذيرات من كارثة صحية وبيئية قد تنفجر في حال استمر الوضع على ما هو عليه.
التعطيش جريمة حرب
من جانبه، أطلق المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان نداءً عاجلًا لإنقاذ سكان قطاع غزة من كارثة إنسانية تهدد حياتهم، في ظل استمرار حرمانهم من مياه الشرب بسبب الحصار الإسرائيلي وتدمير البنية التحتية.
وأكد المركز في بيان، أنّ قوات الاحتلال دمّرت نحو 90% من مرافق المياه والصرف الصحي منذ أكتوبر 2023، وتسبب انقطاع الكهرباء ونفاد الوقود بتوقف معظم محطات التحلية، ما أدى إلى تراجع حاد في إمدادات المياه، بحيث لا يحصل الفرد على أكثر من 5 لترات يوميًا.
وحذر المركز من تفشي الأمراض والجفاف القاتل، خاصة بين الأطفال والنساء وكبار السن، مع استمرار إغلاق المعابر ومنع إدخال المساعدات.
واعتبر أن سياسة التعطيش تمثل جريمة حرب وانتهاكًا لقرارات محكمة العدل الدولية، وقد ترتقي إلى الإبادة الجماعية، داعيًا المجتمع الدولي للتحرك العاجل لفتح المعابر، وضمان دخول الوقود وتشغيل محطات المياه لإنقاذ أكثر من مليوني إنسان في غزة.