تقرير هاني عيسى:- بين ركام الحرب وحصارٍ خانق والمجاعة، يعيش أكثر من مليوني فلسطيني في غزة أزمة اقتصادية مركبة، لا تقتصر على إغلاق المعابر ونقص الإمدادات، بل تمتد إلى شبكة محلية من كبار التجار الذين حولوا الأزمة إلى فرصة لمراكمة الأرباح على حساب الفقراء والمسحوقين. ومع ارتفاع الأسعار إلى مستويات غير مسبوقة، يتساءل المواطنون: من يملك مفاتيح السوق في القطاع المحاصر، وأين الرقابة التي تحمي قوت الفقراء من جشع قلة تتحكم بلقمة العيش؟ نرصد خيوط شبكة الاحتكار من أفواه المتضررين وشهادات الخبراء، ويكشف كيف تحولت الأزمة إلى مصدر ثراء لفئة محدودة وسط صمتٍ رسمي وعجزٍ رقابي.
"الأسعار نار.. والتجار متفقون علينا"
بهذه الكلمات الغاضبة، يعبّر محمود الكحلوت (عامًا)، موظف حكومي وأب لخمسة أطفال، عن معاناته اليومية في مواجهة أسعار الغذاء والمواد الأساسية، ويقول لـ"وكالة قدس نت للأنباء": "منذ بداية الحرب، كل يوم نرى سعرًا جديدًا؛ كيس الطحين، الزيت، السكر، حتى الخبز، كله تضاعف سعره، مع أنه يصل عبر المعابر من خلال المؤسسات الأممية وأحيانًا عبر تنسيقات التجار. واضح أن هناك من يتحكم في السوق، ولا أحد يراقبهم".
ويضيف الكحلوت: "التجار الكبار معروفون، يتفقون على سعر موحد، وكلهم رابحون، ونحن فقط نحسب الخسائر. وفي ظل غياب الرقابة الحقيقية، الغني يزداد غنى، والفقير يغرق أكثر، والناس غير قادرة على توفير لقمة الخبز".
"نحن رهائن لاحتكار التجار"
روان أبو سليم، وهي ربة منزل، تؤكد أنّ تداعيات الاحتكار طالت كل بيت غزي، وتقول خلال حديثها إلى "قدس نت ": "حتى الأشياء التي كنا نعتبرها بسيطة، مثل العدس والأرز، صارت أسعارها خيالية. التجار يسيطرون على السوق، وإذا أرادوا إخفاء صنف من السوق يفعلون ذلك، وبعد أسبوع يبيعونه بضعف الثمن". وتشير إلى أنّ "الناس يشترون بالدين، والتجار لا يرحمون، والأسعار لا تتناسب مع الواقع. نحن نعيش على الحافة، كل يوم همّ جديد، وبالكاد نوفر الخبز والماء، وهذا فقط ما نفكر فيه".
"التاجر الصغير ضحية مثل المواطن"
وفي أحد أزقة مخيم الشاطئ، يفتح محمود الحلو، صاحب بقالة صغيرة، دكانه بخجل، ليس لأنه لا يملك بضائع، بل لأنه يشعر بالعجز أمام زبائنه الذين يتهمونه أحيانًا بالجشع، في حين أنه مثلهم ضحية. ويبين لـ".....": "نحن كتجار صغار لا حول لنا ولا قوة، فالأسعار تأتينا من فوق، من تجار الجملة الكبار، وكلهم معروفون ومسيطرون على السوق، وهناك احتكار واضح، خاصة في الأزمات".
ويوضح بأسى: "أحيانًا تصلني سلعة بسعر معين، وفي اليوم التالي تأتيني بسعر أعلى، وأنا مضطر لرفع السعر على الزبون، لكن المواطن يظن أنني السبب، والكل يكره التاجر، مع أن هناك من فوقنا يتحكم بكل شيء".
"من يحاسب من يتحكمون في لقمتنا؟"
أما ناهض شبات، خريج جامعي عاطل عن العمل منذ ثلاث سنوات، فيطرح تساؤلات حارقة عن غياب الرقابة وفقدان العدالة الاجتماعية، ويقول لـ"قدس نت": "الوضع المالي منهار، ومن يملك المال هو من يتحكم بالناس. التجار الكبار لا يتأثرون بالحرب، بل يستفيدون منها حيث يخزنون البضائع ويتحكمون في السوق". ويوضح أنّه "لا توجد رقابة ولا جهة تحاسبهم، والمواطن العادي هو الضحية، وبدلًا من مكافحة الفقر، نزداد فقرًا ويزداد عدد الجائعين يومًا بعد يوم".
"أسرار السوق المغلق".. اعترافات تاجر يحتكر ولا يندم
في حديث خاص مع "قدس نت"، كشف أحد كبار تجار الجملة في قطاع غزة، الذي طلب عدم ذكر اسمه لأسباب خاصة به، تفاصيل خفية عن طريقة إدارة السوق وسط الحصار والحرب.
يقول التاجر:"الواقع بسيط ومعقد في نفس الوقت. نحن نعمل في بيئة مغلقة مليئة بالمخاطر. من دون تنسيقات خاصة ودفع مبالغ ضخمة للجهات المسيطرة على المعابر، لا يمكن إدخال أي بضاعة، حتى لو كانت مواد أساسية مثل الطحين أو السكر"
ويضيف: "التنسيق مع الجانب الإسرائيلي عملية مكلفة جدًا، لكن من يدفع أكثر يحصل على تسهيلات أسرع، وهذه التسهيلات لا يحصل عليها التاجر الصغير ولا الملتزم بالقوانين. نحن مضطرون لتخزين البضائع وإخراجها بكميات قليلة حتى نعوّض ما ندفعه ونغطي أي خسائر إذا أُغلقت المعابر فجأة".
ويقر التاجر بوجود تفاهمات بين بعض كبار التجار لتثبيت الأسعار والسيطرة على السوق: "نحن لسنا جمعية خيرية. هناك اتفاقات غير مكتوبة بين الكبار لضمان عدم انهيار السوق وضمان ربح معقول للجميع. في الحرب لا يمكنك أن تعتمد على الحظ فقط، بل تؤمّن نفسك وتحمي تجارتك ولو على حساب الزبون أحيانًا"
ويختم قائلًا: "أنا لا أنكر أن المواطن يدفع الثمن في النهاية، لكن في هذا الوضع المعقد لا توجد حلول عادلة. إذا توقفت عن التنسيق سأخسر كل شيء، ومن بعدي سيظهر من يدفع أكثر ويتحكم أكثر. هذه هي قواعد اللعبة هنا".
الفقراء أفقر والأغنياء أغنى
يقول المحلل الاقتصادي نائل موسى إن الأزمة الاقتصادية التي يعيشها قطاع غزة اليوم ليست مجرد أزمة عرض وطلب، بل أزمة عميقة الجذور ذات أبعاد عسكرية وسياسية، تتحكم بها قوة الاحتلال الإسرائيلي، وسط غياب أي دور حقيقي للحكومة في الرقابة والتنظيم.
ويوضح موسى في حديث خاص مع "قدس نت" أن "غزة اليوم سوق مغلقة ومحاصرة، والسلع والخدمات لا تصل إليها إلا عبر التجار، الذين أصبحوا بمثابة البوابة الوحيدة لتدفق الاحتياجات الأساسية، وهذا الواقع خلق تحالفات بين كبار التجار لتقاسم السوق والتحكم بالأسعار، ما ساهم في خلق أجواء من الاحتكار والمضاربة ورفع الأسعار بشكل مبالغ فيه".
ويبين المحلل أن "ما يشهده السوق الغزي ليس ناتجًا عن عوامل اقتصادية بحتة، وإنما هو نتاج مباشر للحصار الإسرائيلي والانخفاض الحاد في تدفق السلع والخدمات، ما أدى إلى تقليص المعروض بشكل كبير، وبالتالي ارتفعت الأسعار بشكل جنوني".
ويتابع موسى: "لا توجد أي منافسة حقيقية في السوق، ولا تقوم الحكومة بدورها الرقابي، بل إن بعض المؤسسات تغض الطرف عن تفاهمات بين بعض التجار والاحتلال لتسهيل مرور البضائع مقابل أرباح طائلة، وهو ما يزيد من خنق المجتمع الغزي ويعزز من منطق الجريمة الاقتصادية المنظمة".
وحول المساعدات والتحويلات الخارجية، يؤكد موسى أن "حتى عندما تصل بعض المساعدات إلى غزة، فإن هناك سرقة منظمة وممنهجة تُغذيها إسرائيل عبر شبكات من المستفيدين المحليين الذين يعتاشون على قوت الناس ويستغلون الأزمات".
ويشدد المحلل على أن "الفقراء في غزة يزدادون فقرًا، فيما يراكم بعض الأثرياء أرباحهم خلال الحرب، ويطلق عليهم اليوم اسم 'أغنياء الحرب'، وهم في الواقع شركاء للاحتلال ويتاجرون بأقوات الناس بلا أدنى مسؤولية".
ويختم موسى حديثه بالقول: "لا يمكن لأي إصلاح اقتصادي أن يجدي نفعًا دون فك الحصار بشكل كامل، وتحرير السوق من القيود السياسية والعسكرية، وفرض رقابة شفافة تحمي الفقراء وتمنع تغول حفنة من المنتفعين الذين يصنعون الثروات من دماء ومعاناة الناس".
الغرفة التجارية تجار حرب يستغلون المعاناة
في ظل الحرب المستمرة والحصار الإسرائيلي المشدد على قطاع غزة، تتفاقم الأوضاع الاقتصادية والمعيشية بفعل ما وصفه رئيس غرفة تجارة وصناعة غزة، عائد أبو رمضان، بـ"سلوكيات تجار الحرب" الذين يستغلون الأزمة لتحقيق أرباح خيالية، بينما تُمنع الجهات الرسمية والتجار النظاميون من العمل.
يقول أبو رمضان في حديث خاص لـ"قدس نت" إنّ "معظم التجار الكبار المعروفين توقفوا عن العمل بفعل القيود الإسرائيلية واستهداف الاحتلال لأي منظومة اقتصادية منتظمة، في المقابل ظهرت طبقة من تجار الأزمة ممن تربطهم علاقات تنسيقية غير شرعية مع جهات في الضفة وإسرائيل".
ويوضح أنّ هؤلاء التجار يدفعون مبالغ خيالية لقوات الاحتلال – تتراوح بين 100 ألف شيكل وتصل حتى مليون شيكل مقابل الشاحنة الواحدة – للسماح بإدخال بضائع محددة إلى قطاع غزة، "ثم يقومون بتخزينها عمدًا ومنعها من الوصول إلى الأسواق، لخلق ندرة في المعروض، وبيعها لاحقًا بكميات قليلة وبأسعار باهظة".
"مافيا تنسيقات واحتكار"
وبحسب أبو رمضان، فإن الاحتلال يمنع التجار الرسميين من إدخال البضائع، ويمنح الأفضلية لأشخاص متنفذين يتحكمون في السوق عبر التنسيق المباشر مقابل المال، الأمر الذي أدى إلى اختلال السوق وغياب العدالة التجارية.
ويشير أبو رمضان إلى أن "ما يحدث هو مافيا احتكارية تدمر الاقتصاد المحلي وتستنزف المواطنين، بينما يعاني القطاع من نقص شديد في السلع الأساسية وارتفاع جنوني في الأسعار قدّر بنحو 30 ضعفًا مقارنة بما قبل الحرب".
شاحنات قليلة بتكلفة هائلة
قبل الحرب، كانت تدخل إلى غزة قرابة 500 شاحنة يوميًا، إلا أن هذا الرقم تراجع اليوم إلى أقل من 100 شاحنة، معظمها لتجار التنسيقات الخاصة. ويضيف أبو رمضان: "ارتفاع كلفة دخول الشاحنة الواحدة إلى نحو مليون شيكل يجعل الأسعار في السوق غير منطقية ولا تتناسب مع القدرة الشرائية للمواطنين الذين يعيشون أوضاعًا إنسانية قاسية".
الغياب الحكومي وغياب التنظيم
وحول دور الغرفة التجارية في ضبط الأسعار، أكد أبو رمضان أنّ "الاحتلال يستهدف أي جهة تحاول تنظيم السوق أو فرض رقابة حقيقية، وهو ما أدى إلى فراغ تنفيذي سمح لتجار الحرب بالتمدد"، مضيفًا: "نحن نراقب الأسعار بشكل يومي ونصدر تقارير، لكن لا نملك قوة تنفيذية لردع هؤلاء التجار، ومعظمهم ليسوا أعضاء في الغرف التجارية ولا يتبعون أي جهة رسمية".
دعوة للشفافية وضخ البضائع
ويرى أبو رمضان أن "الحل يبدأ بضخ البضائع كما كان عليه الوضع قبل الحرب عبر التجار الرسميين، ووقف التعامل مع نظام التنسيقات الخاص غير الشرعي"، مؤكدًا أن "عودة الاستقرار للأسواق مرهون بعودة الشفافية والعدالة في توزيع فرص الاستيراد وإدخال البضائع دون ابتزاز مالي".
ويختم بالقول: "ثقة المواطنين في السوق تتحسن عندما تكون الأسعار عادلة وفي متناول اليد. نحن نحاول إيصال صوتنا للمجتمع الدولي من أجل الضغط على الاحتلال لفتح المعابر وإدخال البضائع بشكل طبيعي دون وسطاء أو تجار حرب".
بين الأمل والمجهول
لا تزال غزة تصارع أزمات معقدة لا حل لها إلا بتفكيك الحصار أولًا، ثم فرض نظام رقابي صارم ثانيًا. ما لم يتم كسر شبكة الاحتكار وتوفير بدائل عادلة ومنصفة، سيظل سكان القطاع رهائن في قبضة من يتاجرون بأقواتهم ويصنعون ثرواتهم من دموعهم.
هذا التقرير يفتح نافذة على زاوية مظلمة من أزمة غزة الاقتصادية، ويضع الجهات الرقابية والحكومية أمام مسؤولياتها الأخلاقية والقانونية. فقد حان الوقت لأن يتوقف العبث بلقمة العيش، وليعلم هؤلاء الذين جمعوا الثروات وسط الخراب، أن في النهاية سيحاسبهم الناس... والمجتمع الذي يعاني الويلات نتيجة هذه الأزمة.