نداءٌ عاجل لإنقاذ حياة المئات من الأطفال الرضع والخُدّج الذين يواجهون خطرًا مباشرًا نتيجة حرمانهم من الحليب العلاجي الضروري لبقائهم على قيد الحياة. يأتي هذا النداء في ظل الإغلاق الإسرائيلي الكامل لمعابر قطاع غزة منذ ما يقارب أربعة أشهر، ومنع إدخال المساعدات الإغاثية والطبية، الأمر الذي يشكّل جريمة حرب وجزءًا من سياسة إبادة جماعية مستمرة للسنة الثانية على التوالي.
وحذّر مصدر طبي في مجمع ناصر الطبي بخان يونس من كارثة صحية وشيكة تهدد حياة مئات الرضع والخُدّج نتيجة نفاد حليب الأطفال، وذلك في ظل استمرار حرب الإبادة والحصار الإسرائيلي المفروض على القطاع منذ أكثر من أربعة أشهر. وأوضح أن الحليب غير متوفر لا في المستشفى ولا في الصيدليات أو الأسواق أو مخازن المؤسسات الطبية، مما يجعل الأطفال بين الحياة والموت بلا ذنب يُرتكب في حقهم.
وقال المصدر إن “هؤلاء الأطفال يصارعون الموت بأجسادهم الصغيرة، بينما تختنق أنفاسهم بلا حول ولا قوة، وأمهاتهن يقفن عاجزات أمام ذبول فلذات أكباجهن أمام أعينهن”. وأضاف أنّ مخزون الحليب العلاجي والصناعي في المستودعات التابعة للمؤسسات المحلية والدولية وصل منذ ثلاثة أسابيع إلى مستوى خطير، وإن الكميات المتبقية قد تنفد خلال الساعات الأربع والثلاثين إلى الثماني والأربعين المقبلة.
ورغم محاولة الطواقم تسليط الضوء على معاناة الرضع عبر مناشدات متكررة، فإن انشغال العالم بالحرب الإقليمية بين إيران وإسرائيل والانقطاع المتكرر للاتصالات والإنترنت يُعيق إيصال هذه النداءات. ويؤكد المصدر أن العمل جارٍ على الإبقاء على بقايا “حليب رقم واحد” في الحضانات، لكنه حذّر من قرب نفاده أيضاً، مما يضع الأطفال على شفير كارثة لا يُمكن تفاديها إلا بكسر الحصار وفتح المعابر لإدخال الإمدادات الطبية والغذائية الحيوية.
وتشير متابعات حقوقية إلى نقصٍ حاد وغير مسبوق في الحليب العلاجي المخصص للأطفال الخُدّج في مستشفيات القطاع. فقد نفدت تمامًا أنواع الحليب المدعّم في أقسام الحضانة، وهي أصناف لا غنى عنها للأطفال الذين يعانون من ضعف المناعة أو صعوبة الهضم أو عدم القدرة على الرضاعة الطبيعية. هذا النقص يفاقم من معاناة الأمهات اللائي يعانين بدورهن من سوء التغذية ويصبن عاجزات عن توفير الرضاعة الطبيعية الكافية لأطفالهن.
ويروي الدكتور جميل سليمان، مدير مستشفى الرنتيسي للأطفال، أنّ “الحليب العلاجي الخاص ببعض الحالات، وخاصة مرضى الجهاز الهضمي، غير متوفر منذ فترة طويلة داخل المستشفى، كما لا يتوفر الحليب الصناعي المدعّم رقم 1 ورقم 2 الخاص بالمواليد. تحتاج مستشفانا إلى نحو 500 علبة حليب علاجي شهريًا، بينما الكميات المتاحة حاليًا محدودة جدًا وهي على وشك النفاد دون أي بديل بسبب الحصار الجائر. هذا النقص أدى إلى تسجيل حالات وفاة يُرجّح أن أحد أسبابها هو انعدام الحليب العلاجي، كما نعاني صعوبة في تشخيص حالات الأطفال بسبب قلة المواد الطبية اللازمة. هناك حاجة ماسة لتوفير أصناف الحليب العلاجي مثل LF (خالي من اللاكتوز)، AR (مضاد للارتجاع)، Isomil، حليب الصويا، الحليب المحلل، بالإضافة إلى الحليب الصناعي المدعّم من المرحلة الأولى حتى الثالثة.”
من جهته قال الحقوقي عبد الله شرشرة: “اليوم أثناء عملي صادفت سيدة ترضع طفلها شوربة العدس لعدم قدرتها على شراء حليب الأطفال، فقد بلغ سعر عبوة الحليب نحو 90 دولارًا، وهو مبلغ لا تُطيق تكلفته أغلب العائلات في ظل الظروف الراهنة، علماً أن العبوة الواحدة تكفي الرضيع لأيامٍ معدودة لا تتجاوز خمسة أيام. أدعو الصحفيين والناشطين والمؤثرين إلى تكثيف التغطية خلال الأيام المقبلة لأزمة نفاد حليب الأطفال في غزة، التي باتت تهدد حياة آلاف الرضع بلا حولٍ لهم ولا قوة.”
وبحسب وزارة الصحة في غزة أوشك الحليب الصناعي المدعّم على النفاد في الأسواق المحلية، وقد نفدت بالفعل العديد من الأصناف. وحتى عندما تتوفر كميات محدودة في بعض الصيدليات، تُسعر بأسعار باهظة تتجاوز قدرة معظم الأسر في قطاع غزة، ما يجعل الحصول عليه بعيد المنال عن الأطفال الرضع الأكثر حاجة إليه.
أفادت السيدة أزهار محمد ورش أغا (33 سنة) وهي أرملة تسكن في خيمة بشارع الجلاء وسط مدينة غزة، بأن طفلتها حور غالب عبد القادر ورش أغا وُلِدت في مستشفى “أصدقاء المريض” بتاريخ 26 مارس 2025، وكانت الولادة قيصرية فأدخلت الطفلة الحضانة لأيامٍ وتغذت بالحليب الصناعي والعلاجي لعلاج الصفار. وعند خروجها اعتمدت أزهار في إرضاع حور على الحليب الصناعي المخصص للأطفال دون ستة أشهر، حتى بدأت سلطات الاحتلال منذ إغلاق المعابر بمنع إدخال المستلزمات الإغاثية والطبية، بما فيها حليب الأطفال.
ومع نفاد الحليب من الأسواق ومستودعات وزارة الصحة، اضطرت أزهار قبل أيام قليلة إلى شراء عبوة مخصصة للأطفال فوق سن ستة أشهر بسعر يفوق السعر الطبيعي بعشر مرات، فأدت إلى إصابة الطفلة بالنفخة وضيق التنفس والإسهال الشديد. وعند مراجعة المستشفى حذّرها الأطباء من خطورة الجفاف، ونصحوها بتركيب محاليل الإرواء إذا استمر الإسهال. تقول أزهار: “لم أعد أعلم من أين أحصل على الحليب المناسب، وأنا مضطرة لتخفيف الكمية المتاحة رغم أن ذلك يعرض حياة طفلتي لخطرٍ حقيقي.”
وفي ظل هذا الواقع، يحذر المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان من تفاقم الكارثة الصحية التي تواجه آلاف الأطفال في غزة، حيث شهد شهر مايو الماضي وحده 5,119 حالة سوء تغذية حاد لأطفال تتراوح أعمارهم بين 6 أشهر و5 سنوات، من بينهم 636 حالة سوء تغذية وخيم تُعدّ الأكثر فتكًا، بزيادة بلغت 146% منذ فبراير الماضي. وقد أُدخل 16,736 طفلًا إلى المستشفيات لتلقي العلاج منذ بداية العام وحتى نهاية مايو بمعدل 112 طفلًا يوميًا، بينما أفادت منظمة الصحة العالمية بوفاة 55 طفلًا نتيجة سوء التغذية، مع احتمال ارتفاع هذا العدد حال استمرار إغلاق المعابر ومنع دخول الإمدادات الإنسانية.
يُعدّ منع قوات الاحتلال الإسرائيلي إدخال المواد الغذائية والدوائية، بما فيها الحليب العلاجي المنقذ للحياة، انتهاكًا صارخًا لأحكام القانون الدولي الإنساني وجريمة حرب بموجب المادة 8 من ميثاق روما المؤسس للمحكمة الجنائية الدولية، التي تُجرّم استخدام التجويع كأسلوبٍ في الحرب وعرقلة وصول الاحتياجات الأساسية للسكان المدنيين. كما يشكل هذا المنع خرقًا فاضحًا للقرارات الملزمة الصادرة عن محكمة العدل الدولية التي أكدت وجوب إدخال المساعدات الإنسانية فورًا ودون عوائق. وبناءً عليه، يؤكد المركز أن هذه الأفعال جزء من سياسة ممنهجة للتجويع والإبادة البطيئة، تندرج تحت جريمة الإبادة الجماعية وفق المادة 6 من ميثاق روما، وتتقاطع مع بنود اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية لعام 1948 التي تُجرّم فرض ظروف معيشية يقصد بها التدمير الكلي أو الجزئي لمجموعة قومية.
يشير المركز إلى إدراج دولة الاحتلال مؤخرًا على “اللائحة السوداء” للأمم المتحدة للدول والمنظمات التي ترتكب انتهاكات جسيمة بحق الأطفال في النزاعات المسلحة، وهو اعتراف دولي صريح بالمسؤولية المباشرة لسلطات الاحتلال عن أنماطٍ ممنهجة من الجرائم ضد الأطفال الفلسطينيين. هذا الإدراج جاء نتيجة تراكم الأدلة الموثقة حول القتل المتعمد والتجويع والحرمان من الرعاية الصحية واستهداف البنية التحتية المدنية التي يعتمد عليها الأطفال للبقاء.
يؤكد المركز أن هذا الإجراء سيبقى شكليًا ما لم يُترجَم إلى خطوات عملية لوقف الإفلات من العقاب، تشمل فتح تحقيقات جادة ومساءلة المسؤولين، وفرض تدابير دولية رادعة لردع الجرائم الإسرائيلية، وضمان حماية فعلية للأطفال الفلسطينيين. وحدها هذه التدابير الملموسة قادرة على إنهاء سياسات التجويع والإبادة البطيئة، وإعادة حق الأطفال في الحياة والصحة والسلامة.
ومنذ الثاني من آذار/ مارس الماضي، تواصل إسرائيل، القوة القائمة بالاحتلال، سياسة تجويع ممنهج لنحو 2.4 مليون فلسطيني بغزة، عبر إغلاق المعابر بوجه المساعدات المتكدسة على الحدود، ما أدخل القطاع مرحلة المجاعة وأودى بحياة كثيرين.
ومنذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، يرتكب الاحتلال الإسرائيلي جرائم إبادة جماعية في قطاع غزة، تشمل القتل والتجويع والتدمير والتهجير القسري، متجاهلًا النداءات الدولية كافة وأوامر محكمة العدل الدولية بوقفها.
وخلفت الإبادة نحو 186 ألف شهيد وجريح، معظمهم أطفال ونساء، وما يزيد على 11 ألف مفقود، إضافة إلى مئات آلاف النازحين ومجاعة أزهقت أرواح كثيرين بينهم أطفال.