غزة على شفا انهيار شامل: الاحتلال الإسرائيلي يواصل تدمير منظومة الكهرباء وحرمان الفلسطينيين من مصادر الطاقة

عائلات نازحة في غزة.jpg

يحذر المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان من الانهيار الوشيك لما تبقى من المرافق الحيوية العاملة في قطاع غزة، وعلى رأسها مرافق الرعاية الصحية والمياه وخدمات الصرف الصحي، في ظل التدمير الممنهج للبنية التحتية الحيوية، وبخاصة قطاع الكهرباء والطاقة، وتشديد الحصار المفروض على قطاع غزة. ويؤكد المركز أن استمرار قطع الكهرباء الكامل لأكثر من 20 شهرًا، واستمرار منع وصول الوقود اللازم لتشغيل هذه القطاعات يعكس سياسة متعمدة يسعى الاحتلال من خلالها إلى تقويض أسس الحياة الجماعية، وتحقيق أقصى درجات الإخضاع والتدمير وتجريد الفلسطينيين من ما تبقى من مقومات بقائهم، في إطار جريمة الإبادة الجماعية التي تستهدف القطاع بأكمله.

ويشير المركز إلى أن الأوضاع الإنسانية التي يعيشها الفلسطينيون وصلت إلى درجة حرجة، حيث تدفع السياسات الاسرائيلية السكان قسرًا نحو الانهيار تحت وطأة الإبادة الجماعية المتواصلة، والتي لم تتوقف عند جرائم التهجير الجماعي، والتدمير الشامل والعنيف للمدن والأحياء السكنية والبنى التحتية الأساسية، والحصار الخانق والتجويع الممنهج.

ووفقًا لمتابعة المركز، فقد كان قطاع الكهرباء والطاقة هدفًا رئيسيًا للعدوان الإسرائيلي، حيث تم استخدام «قطع الكهرباء» و«حرمان الوصول إلى الطاقة» كسلاح في ترسانة الإبادة الإسرائيلية ضد أكثر من مليوني فلسطيني، يستخدمه لخنق غزة ومضاعفة معاناة سكانها، في سياسة عقاب جماعي مجرّمة ووحشية. فمنذ الأيام الأولى للعدوان، أوقفت سلطات الاحتلال تزويد غزة بإمدادات الكهرباء عبر الخطوط الرئيسية، وقطعت ما مجموعه عشرة خطوط جهد عالٍ كانت تغذي القطاع بنحو 120 ميغاواط، كما منعت توريد السولار الصناعي لمحطة توليد الكهرباء الوحيدة في قطاع غزة، في إطار إعلان وزير جيش الاحتلال فرض حصار شامل على غزة شمل الغذاء والدواء والوقود.  وقد أدى ذلك إلى توقف محطة التوليد عن العمل وانقطاع تام للتيار الكهربائي عن سكان القطاع.

واستكمالًا لهذه السياسة، شنَّ الاحتلال هجمات مكثّفة استهدفت بشكل مباشر تدمير منظومة الكهرباء والطاقة، حيث تعرضت البنية التحتية الأساسية لقطاع الكهرباء لدمار واسع النطاق وخسائر فادحة، دون أي مبرر لهذا الاستهداف. وتشير التقديرات الأولية الصادرة عن شركة توزيع الكهرباء في غزة (GEDCO) أن إسرائيل دمرت وبشكل متعمّد معظم مرافق منظومة الكهرباء بغزة على مدار أكثر من 600 يومٍ من العدوان المتواصل، مؤكدة أن نسبة الدمار تجاوزت 90% من مكونات قطاع الكهرباء، حيث تم تدمير3,780 كيلومترًا من الشبكات والكوابل المنتشرة في مختلف أنحاء قطاع غزة، ودمّر أيضًا 2,105 محولًا لتوزيع الكهرباء، وتم تدمير أكثر من 70% من مباني ومقرات شركة الكهرباء بصورة كاملة أو جزئيًة، إضافة إلى تدمير 90% من المخازن وورش الصيانة والآليات والمعدات الثقيلة التابعة للشركة بشكل كامل، لتبلغ قيمة الخسائر لقطاع الكهرباء أكثر من 450 مليون دولار.1

ويأتي هذا التدمير في سياق ممتد من المعاناة، إذ عانى قطاع غزة منذ أكثر من ١٨ عاماً من عجزًا مزمنًا في الكهرباء، وذلك كنتيجة مباشرة لاستهداف محطة توليد الكهرباء وتدمير المحولات ونتيجة لسياسات الحصار والقيود الإسرائيلية على توريد الوقود للمحطة. فعلى مدار سنوات الحصار الإسرائيلي، كان متوسط عدد ساعات وصل الكهرباء في القطاع يتراوح ما بين 6 إلى 8 ساعات يوميًا فقط، مقابل 16 إلى 18 ساعة من القطع، ويرتبط هذا العجز بشكل مباشر بكميات الكهرباء المحدودة التي كانت تصل إلى القطاع والتي لم تكن تتجاوز في أفضل الأحوال 180 ميغاواط يوميًا، وهي كمية لا تغطي سوى ثلث الاحتياج الفعلي للسكان، والمقدر بحوالي 600 ميغاواط، حيث كانت إسرائيل تزود غزة عبر الخطوط المباشرة بحوالي 120 ميغاواط، فيما تنتج محطة التوليد نحو 60 ميغاواط حال توفر السولار.

وبينما تلجأ العائلات في قطاع غزة إلى بدائل الطاقة كوسيلة اضطرارية لتأمين الحد الأدنى من احتياجاتهم اليومية، حيث يجبر السكان إلى التوجه يوميًا إلى نقاط الشحن التي تعتمد على الطاقة الشمسية لشحن الهواتف المحمولة والبطاريات والأجهزة الالكترونية، ولضخ المياه إلى المنازل، وتشغيل إنارة محدودة، سرعان ما أصبحت هذه البدائل نفسها هدفًا للهجمات الإسرائيلية، فقد تعمد الاحتلال استهداف أنظمة الطاقة الشمسية المنتشرة فوق أسطح المباني السكنية والمدارس والمرافق الصحية ومراكز الإيواء بشكل مباشر، وتشير بيانات «يونوسات» إلى تدمير الاحتلال ما يزيد عن 1695 لوحة لتوليد الطاقة الشمسية2 خلال العدوان المستمر. وتعكس هذه الاعتداءات نهجًا إسرائيلية متعمدًا لإغراق غزة في الظلام، وحرمان سكانها من أي مصدر للطاقة، مما يعمق كارثتهم الإنسانية يومًا بعد يوم.

وقد خلفت تداعيات هذا التدمير الممنهج آثارًا كارثية طالت مختلف مناحي الحياة، حيث مسَّ الانقطاع المزمن للكهرباء جوهر عمل القطاعات الحيوية التي باتت تعيش حالة حرجة من التهديد بالانهيار الكامل مثل قطاعات الرعاية الصحية والإغاثة والبلديات والاتصالات والتعليم، خاصةً في ظل شح الوقود وانعدام المصادر المحلية المستقرّة للطاقة، حيث أصبحت هذه المرافق تعمل بقدرة محدودة للغاية، لا تكفي لتلبية الحد الأدنى من الاحتياجات الأساسية.

وفي هذا السياق، يعد القطاع الصحي من أكثر القطاعات هشاشةً وتأثرًا، فقد أدى الانقطاع الكبير للكهرباء إلى تقليص المستشفيات لخدماتها الطبية بشكل كبير، وتعطيل أقسام حيوية كالعناية المركزة، والعمليات الجراحية، وحضانات الأطفال، ووحدات غسيل الكلى، ووحدات التبريد الخاصة بالأدوية واللقاحات، مما يعرِّض حياة عشرات آلاف المرضى والجرحى للخطر.

وامتدت الكارثة إلى قطاع المياه والصرف الصحي، حيث توقفت محطات تحلية المياه ومعالجة المياه العادمة عن العمل، وتعطلت آبار المياه، مما دفع السكان للاعتماد على مصادر ملوثة من المياه نظرًا للنقص الحاد في مياه الشرب النظيفة، وقد انخفضت حصة الفرد في المياه بشكل حاد لتصل إلى 3-12 لترًا للفرد يوميًا، وهو مستوى متدنٍ جدًا عن المستوى الموصى به بحسب الواصفات والمعايير الدولية، والذي تقدره منظمة الصحة العالمية بحوالي 100 لتر للفرد يوميًا. وساهم حرمان قطاع غزة من الوصول إلى الكهرباء والطاقة أيضًا في تفاقم مشكلة مياه الصرف الصحي، وتدفق المياه العادمة إلى البحر والتجمعات السكانية ومراكز الإيواء، مما زاد من نسبة التلوث وتفشي الأوبئة والأمراض المنقولة بالمياه، خاصَّة في بيئة انهارت فيها منظومة النظافة والوقاية.

وقد تم السماح بإعادة تشغيل خط كهرباء واحد فقط وبشكل جزئي منتصف كانون الأول/نوفمبر 2024، لتغذية محطة تحلية مياه البحر التابعة لمصلحة مياه بلديات الساحل المركزية، ومحطة معالجة مياه الصرف الصحي في وسط القطاع، وذلك بعد جهود حثيثة بذلتها «يونيسيف» و«الاتحاد الأوروبي»، لكن سلطات الاحتلال عطلت هذا الخط مجددًا في 9 مارس/آذار 2025، مما أدى إلى توقف عمل المحطات المركزية، وحرمان أكثر من 600 ألف فلسطيني من الحصول على للمياه النظيفة.3

وتأثرت خدمات الاتصالات والإنترنت بشكل كبير، خاصة في ظل الحاجة الماسة للتواصل في أوقات الطوارئ حيث انخفضت ساعات وصل الانترنت وشبكات الاتصال، بينما تأثرت الأنشطة التي تنفذها المؤسسات التعليمية في قطاع غزة أيضًا بنقص الكهرباء، مما حرم مئات آلاف الطلبة من حقهم في مواصلة عملية التعلم عن بعد والتي بادرت إليها وكالة أونروا ووزارة التربية والتعليم الفلسطينية، خاصةً في ظل الدمار الهائل الذي لحق بالمرافق المدرسية والأكاديمية خلال الإبادة الجماعية، وإغلاق ما تبقى منها بعد أن تحولت إلى ملاجئ لإيواء الأسر النازحة في مختلف مناطق قطاع غزة.

وفي ظل استمرار إغلاق الاحتلال للمعابر منذ 2 مارس 2025، ومنع إدخال المساعدات الإنسانية بما في ذلك الوقود اللازم لتشغيل المنشآت الخدماتية والحيوية من الكارثة الإنسانية، أعلنت بلديات كل من محافظات غزة4 وخانيونس5 والوسطى6 مؤخرًا توقف جميع خدماتها بعد نفاد الوقود، محذرًا من تفشي مكرهة صحية وبيئية وانتشار للأوبئة والأمراض الخطيرة، نتيجة لتراكم النفايات وتوقف مولدات ضخ المياه، وتدفق مياه الصرف الصحي العادمة في الشوارع، ووسط التجمعات السكنية والمآوي.

وبينما تعيش هذه المرافق حالة حرجة من التهديد بالانهيار، فإن المنظمات الدولية تقوم بتوفير كميات شحيحة جدًا من الوقود، مما يسمح باستمرار عملها حاليًا بالحد الأدنى من الطاقة التشغيلية ويؤخر انهيارها، رغم القيود الإسرائيلية على إدخال الوقود، وتصاعد العمليات العسكرية ومواصلة الإمعان في استهداف لمرافق الرعاية الصحية والبنى التحتية الحيوية الأخرى.

يؤكد المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان أن استمرار حرمان اسرائيل السكان من الوصول إلى الكهرباء ومصادر الطاقة، يعد شكلًا من أشكال العقاب الجماعي المحظور صراحة بموجب المادة 33 من اتفاقية جنيف الرابعة، ويندرج ضمن سياسة اسرائيلية تهدف إلى إهلاك السكان وتجريدهم من مقومات البقاء وتهجيرهم، عبر جعل الظروف المعيشية غير قابلة للحياة، وإحداث الانهيار في كل القطاعات الحيوية، وهذه السياسة تمثل بتداعياتها تجسيدًا واضحًا لأركان جريمة الإبادة الجماعية التي نصت عليها اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، والتي تتمثل في إخضاع السكان لظروف معيشية بقصد إهلاكهم كليًا أو جزئيًا، وإلحاق أضرار جسدية ونفسية خطيرة بهم، مما يؤكد الطبيعة الإجرامية لهذه الأفعال.

ويشدد المركز على أن هذه الممارسات تمثل انتهاكًا جسيمًا للقانون الدولي الإنساني، حيث تخرق سلطات الاحتلال بها الالتزامات الملقاة على عاتقها كقوة قائمة بالاحتلال، ومنوط بها ضمان حياة المدنيين وصون سبل معيشتهم، وتوفير احتياجاتهم الأساسية على النحو الذي تنص عليه المادة 55 من اتفاقية جنيف الرابعة، وهي مهام يستحيل إتمامها دون توفر مستمر للكهرباء. كما أنه واستنادًا إلى المادة 54 من البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف، فإن الاستهداف والتدمير المتعمد الأعيان المدنية الضرورية لبقاء السكان على قيد الحياة مثل منشآت الكهرباء، وعلى نحو لا تبرره الضرورات العسكرية، يعد خرقًا محظورًا، يدرجه نظام روما الأساسي ضمن جرائم الحرب التي يعاقب عليها.

وإزاء هذا الواقع الكارثي، يجدد المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان إدانته الشديدة لاستمرار الاحتلال الإسرائيلي في حرمان سكان قطاع غزة من حقهم في الوصول إلى الكهرباء، ويؤكد أن ما يتعرض له قطاع الطاقة هو جريمة مكتملة الأركان وفق القانون الدولي، ويستدعي مساءلة ومحاسبة المسؤولين الإسرائيليين أمام المحكمة الجنائية الدولية. كما يحذر المركز من استمرار تدهور الأوضاع الإنسانية والصحية والبيئية في قطاع غزة.

ويدعو المركز الأطراف السامية المتعاقدة على اتفاقيات جنيف الرابعة للوفاء بالتزاماتها والعمل فورًا على وقف الانتهاكات الجسيمة التي تقترفها دولة الاحتلال، وفرض إنهاء العدوان الوحشي الذي ينفذه ضد الفلسطينيين، ويدعو الدول الأعضاء في المحكمة الجنائية الدولية أيضًا، للعمل على توسيع نطاق التحقيقات الأممية بشأن جرائم الحرب الإسرائيلية في قطاع غزة، وإنهاء سياسة الإفلات من العقاب، وضمان مساءلة مرتكبي هذه الجرائم من الاحتلال، لا سيما وأنه قد سبق لمحكمة الجنايات الدولية أن أصدرت مذكرات توقيف ضد عدد من قادة الاحتلال، في سياق التحقيقات الجارية بشأن ارتكاب جرائم حرب وإبادة جماعية في قطاع غزة.

كما يطالب المركز المجتمع الدولي، بما في ذلك المنظمات الانسانية وعلى رأسها الأمم المتحدة، بضرورة التحرك للضغط لإعادة تشغيل الخطوط الكهرباء للكهرباء في غزة فورًا والتي تم فصلها من قبل سلطات الاحتلال، وضمان استئناف تدفق الوقود اللازم لتشغيل محطة التوليد ومرافق الخدمات الحيوية، وفتح ممر آمن لوصول المواد والمعدات الخاصة بتأهيل مرافق الطاقة المدمرة، وبما يشمل إدخال المولدات والمحولات والأسلاك والأعمدة والمعدات الثقيلة والمركبات، وتوفير الدعم العاجل من أجل أن تبدأ الطواقم المختصة بعمليات صيانة وتشغيل شبكة الكهرباء في قطاع غزة.

المصدر: وكالة قدس نت للأنباء - قطاع غزة