بقلم: جمال زقوت / تُعتبر فرانشيسكا ألبانيزا أول امرأة يتم تعيينها، في الأول من مايو 2020، كمقررة خاصة للأمم المتحدة معنية بحالة حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة، لتتولى هذا المنصب لمدة ثلاث سنوات. وقد مدد مجلس حقوق الإنسان مهمتها لولاية ثانية في الرابع من أبريل 2025، لمدة ثلاث سنوات إضافية، لتستمر ولايتها حتى نهاية عام 2028.
العدالة لفلسطين أولًا: جوهر نضال المقررة الأممية
ومنذ تولّيها هذه المهمة، كرّست ألبانيزا حياتها المهنية من أجل العدالة في فلسطين، وكشف مدى خطورة الانتهاكات التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني من حكومة الاحتلال الصهيوني، والتي تركزت على مصادرة سُبل الحياة الإنسانية لشعبنا الفلسطيني، وليس فقط أرضه وموارده وحريته، انطلاقًا من إصرار الحكومات الصهيونية المتعاقبة على مصادرة حق الفلسطينيين في العودة وتقرير المصير والاستقلال الوطني في دولتهم المستقلة، وفقًا للقانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة ذات الصلة.
“اقتصاد الإبادة”: الشركات المتواطئة في الجرائم
فور إعلان إسرائيل الحرب العدوانية على قطاع غزة، سعت ألبانيزا إلى إعلان وقف فوري للأعمال العسكرية، محذرة منذ البداية من الانزلاق نحو التطهير العرقي، الذي شكّل وما يزال حتى اليوم العنوان الأبرز لجرائم الإبادة الجماعية التي ترتكبها حكومة تل أبيب وجيشها. وقد قدمت تقريرًا إلى مجلس حقوق الإنسان في مارس 2024، خلُص إلى أن ما يحدث في غزة قد يرقى إلى جريمة إبادة جماعية. كما نشرت في يونيو 2025 تقريرًا يربط بين الشركات الكبرى ودعمها للاحتلال، وذكر التقرير 48 شركة، متهمًا إياها بالمساهمة في “اقتصاد الإبادة”.
بهذا المعنى، تحدّت فرانشيسكا ما يمكن اعتباره “عشّ الدبابير”، لإعلاء قيم العدالة وصوت ضحايا عدوانية التحالف الصهيو-أمريكي، المستمرة منذ أكثر من خمسة وسبعين عامًا من الألم والظلم. فكانت مواقفها تكشف حقيقة العصب الحيّ لهذه المعاناة، التي تُوِّجت بجرائم الإبادة الجماعية المستمرة ضد شعبنا الفلسطيني منذ السابع من أكتوبر وحتى اليوم.
غزة رماد بشري
في تقريرها الشهير “Anatomy of a Genocide”، الذي قدمته في مارس 2024 أمام مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، أكدت ألبانيزا أن هناك “أُسسًا معقولة للاعتقاد” بأن إسرائيل ارتكبت على الأقل ثلاثة أفعال مُعرّفة قانونيًا كإبادة جماعية في غزة: أولها قتل أعضاء من مجموعة فلسطينية، وثانيها تعريضهم لأضرار جسدية أو نفسية خطيرة، وأخيرًا خلق ظروف معيشية يُقصد منها التدمير الجزئي أو الكامل للمجموعة الفلسطينية. وأشارت إلى التدمير الشامل لهياكل الحياة الإنسانية، مؤكدة أن “تدمير كل ما هو ضروري للحياة في غزة”، بما يشمل المدارس والمستشفيات والمساكن والبنية التحتية، يُعد دليلًا على نية “تدمير النظام الاجتماعي والثقافي والاقتصادي للفلسطينيين”. كما أشارت إلى تصاعد “خطاب التحريض” من قِبل مسؤولين إسرائيليين، وذلك كأدلة قاتلة على وجود نية الإبادة. وفي تصريحات لاحقة، اعتبرت ما يجري في القطاع “ليس حربًا بل إبادة”. ففي أكتوبر 2024، قالت حرفيًا: “لا تُسمِّها حربًا. إنها إبادة جماعية… النية واضحة وقطعية”. كما ذكرت أن غزة تحولت إلى “رماد بشري”، وأن ما يجري فيها هو أكبر “حالة إبادة جماعية في التاريخ الحديث”، بفضل التكنولوجيا والأسلحة الحديثة. فدعت إلى فرض عقوبات على إسرائيل وحظر التصدير العسكري لها، لأنها تعتقد أن استمرار توريد السلاح يُعد “مساعدة” لها في ارتكاب جرائم إبادة جماعية. وفي مايو 2025، استنكرت سياسة “القناع الإنساني” المستخدمة لتوصيل مساعدات تُدار تحت هيمنة عسكرية إسرائيلية، وأطلقت نداءً صارخًا لـ”إيقاف الجنون” ومنع استخدام المساعدات كغطاء لجرائم إبادة، مشيرة إلى أن قطع الكهرباء والماء عن غزة يُشكّل “تحذيرًا من إبادة جماعية” بسبب منع فرص الحياة الأساسية.
عقوبات أمريكية: محاولة لإسكات صوت الضحايا
أثارت مواقف ألبانيزا أهمية ممارسة الضغط على المجتمع الدولي ليتحرّك قانونيًا، وتقديم الدعم للمحكمة الجنائية الدولية، واعتبرتها أولوية عليا لمحاسبة المسؤولين الإسرائيليين. تقريرها الأخير في يوليو 2025 بعنوان “من اقتصاد الاحتلال إلى اقتصاد الإبادة” ادّعى استفادة شركات محددة مما تسميه “اقتصاد الإبادة”، مما أدى إلى رد فعل سياسي ضاغط، من ضمنه عقوبات أمريكية عليها. فقد أصدرت وزارة الخارجية الأمريكية قرارًا بفرض عقوبات على فرانشيسكا ألبانيزا في 9 تموز/يوليو 2025، تضمّن تجميدًا لأصولها في الولايات المتحدة وحظر دخولها إلى أراضيها، وذلك في إطار تنفيذ الأمر التنفيذي رقم 14203، الذي يستهدف مساعدي المحكمة الجنائية الدولية والأشخاص المرتبطين بتحقيقات ضد مواطني إسرائيل أو الولايات المتحدة.
منذ دخول ترامب البيت الأبيض، أعلن حربه على مؤسسات القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني. ورغم إصراره على التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار قبل تنصيبه لولايته الثانية، إلا أنه سرعان ما انحاز إلى حرب الإبادة، عندما ساند إسرائيل في انتهاك الاتفاق الذي أشرف وفريقه عليه، مقدّمًا الغطاء منذ مارس وحتى اليوم لاستمرار الجرائم الإسرائيلية ضد الأبرياء في القطاع، وصامتًا على ما يرتكبه جيش الاحتلال والمستوطنون الإرهابيون من جرائم يومية، لا تستثني التمهيد للإبادة والتطهير العرقي، في سياق سعي حكومة تل أبيب إلى تنفيذ ما تعتبره “خطة الحسم”. وفي الوقت نفسه، يستمر ترامب في تقديم الضوء الأخضر لمواصلة الإبادة والتطهير العرقي، وهذه المرة من خلال التلويح الكاذب برغبته في وقف الحرب، التي لا تتجاوز الأهداف والتوقيت الإسرائيليين.
لقد استحقّت فرانشيسكا لقب “حاملة لواء العدالة” في مواجهة مجرمي الإبادة ومن يقف خلفهم، سيّما ترامب وإدارته، والنفاق الأوروبي الذي لم يُقدِم حتى اللحظة على أي خطوة عملية لوقف الإبادة وتعطيل أهدافها السياسية، مكتفيًا بالإدانات اللفظية التي لا تُغني ولا تُسمن. نعم، إنه الصراع بين قيم العدالة والحق التي أصبحت فلسطين عنوانها الأبرز، وبين الاضطهاد والظلم والاستهانة بكرامة الإنسان وحقوقه الأساسية. ولعلّ فرانشيسكا باتت في هذا الصراع رمزًا لملايين البشر في أصقاع الأرض، ومعها الآلاف من منظمات حقوق الإنسان في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك واشنطن، وكذلك في تل أبيب.
إلا أن المستغرَب أن يصل نأي القيادة المُهيمنة على السلطة والحكم بالنفس، إلى درجة تحجم فيها حتى اللحظة عن إعلان أي موقف يندد بالعقوبات الأمريكية على ألبانيزا؛ ليس فقط لمساندة صوتها الحر، والذي يُشكّل امتدادًا لملايين الحناجر التي تهتف لفلسطين وحريتها وإنصاف العدالة لشعبها، بل ولإبراز صوت الضحايا من الأطفال والنساء وغيرهم، الذين اعتبرتهم ألبانيزا جوهر القضية، وليس ما فُرض عليها من عقوبات لا تستهدف سوى إسكاتها، ومعها إسكات وتغييب العدالة في فلسطين، للمضي في تصفية الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت