في خضم الحرب الإسرائيلية المتواصلة على قطاع غزة، تتكشف جوانب مروّعة من استهداف الاحتلال للفئات الأضعف في المجتمع الفلسطيني، حيث تتعرض النساء الحوامل والأطفال حديثو الولادة لانتهاكات جسيمة ترتقي إلى مستوى الإبادة البيولوجية. وقد كشف المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان عن تصاعد مقلق في حالات الإجهاض، والولادات المبكرة، ووفاة الأجنّة، والمواليد حديثي الولادة، نتيجة سياسات التجويع المتعمدة، وغياب الرعاية الصحية، والاستهداف العسكري المتكرر للبنية التحتية الصحية.
مؤشرات كارثية: أرقام تنذر بالمحو
خلال النصف الأول من عام 2025، سجلت وزارة الصحة في قطاع غزة 17,000 حالة ولادة، بينها 2,600 حالة إجهاض، و220 حالة وفاة لأجنّة أثناء الحمل أو قبل الولادة، و21 حالة وفاة لحديثي الولادة في اليوم الأول. كما تم تسجيل 67 حالة تشوه خلقي، بنسبة 0.39%، و2,535 مولوداً احتاجوا إلى دخول الحضانة (14.91% من الإجمالي)، بينما وُلد 1,600 طفل بوزن أقل من الطبيعي (9.41%)، وسُجّلت 1,460 حالة ولادة مبكرة (8.59%).
هذه النسب الخطيرة تؤكد انهيار منظومة الصحة الإنجابية في قطاع غزة بفعل الحصار وتدمير المنشآت الصحية. المستشفيات، التي بالكاد تعمل في ظل انقطاع الكهرباء ونفاد الوقود، عاجزة عن توفير الحاضنات أو أجهزة التنفس الصناعي، ما يزيد من أعداد الوفيات في صفوف الرضّع.
شهادات من قلب المأساة: أطفال يولدون للموت
شموخ كرسوع (20 عامًا)، من سكان غزة، روت تجربتها المأساوية بفقدان طفلها “معين”: “وُلد طفلي في الأسبوع السابع والعشرين من الحمل، وكان وزنه كيلوغرامًا واحدًا فقط. كنت أعاني من سوء تغذية حاد خلال حملي، لم أتناول سوى وجبتين من العدس يوميًا. لم أستطع تحمّل ثمن إبر تثبيت الحمل، فسوء التغذية والخوف والضغوط النفسية كانت سببًا في الولادة المبكرة. نُقل طفلي إلى الحضانة في مستشفى الصحابة، لكنه توفي بعد 48 ساعة فقط.”
فلسطين (36 عامًا)، من حي الزيتون، فقدت طفلين في ظروف قاهرة. تقول: “في مايو 2024، أُجهضت في الشهر السادس بسبب المجاعة وانعدام الغذاء. كنا نعيش على ‘الدقة’ فقط دون خبز. ولدت طفلي الثاني في يوليو 2025 بوزن 700 غرام، لكنه توفي بعد يومين فقط من الولادة. الحزن يثقل قلبي لفقد أطفالي الواحد تلو الآخر.”
م.ق.، أم فقدت ابنتها “خديجة”، تروي: “في الشهر السادس تم تشخيص الجنين بتشوهات بسبب سوء التغذية والتعرض لغاز الفوسفور. في الشهر الثامن وُلدت خديجة مشوهة وغير مكتملة، وتوفيت أثناء الولادة.”
أطباء يدقون ناقوس الخطر
الدكتور ناجي القرشلي، استشاري أمراض النساء والولادة، أكد أن حالات الإجهاض والولادات المبكرة باتت يومية: “أشاهد من 4 إلى 5 حالات إجهاض يوميًا. المجاعة أدت إلى انتشار الأنيميا وسوء التغذية بين الحوامل، ما يهدد حياتهن وحياة الأجنة.”
أما الدكتور نعيم أيوب، مدير مشفى الصحابة الطبي، فشدّد على أن النساء الحوامل يفقدن أكثر من 10 كيلوغرامات خلال الحمل، ما يؤدي إلى انهيار وظائف القلب والجهاز التنفسي. وأضاف: “حتى إن استكملت الأم فترة الحمل، غالبًا ما يولد الطفل ضعيفًا، ناقص الوزن، أو بتشوهات خلقية تؤثر على حياته لاحقًا.”
تجويع ممنهج وموت على الحواجز
سياسة التجويع المفروضة على غزة تمثّل أحد أساليب الاحتلال في تفكيك المجتمع الفلسطيني. منذ 2 مارس 2025، أغلقت سلطات الاحتلال جميع المعابر، ومنعت دخول المواد الغذائية والمستلزمات الطبية، ما أدى إلى انهيار المنظومة الغذائية والصحية.
يعاني السكان من مجاعة خانقة، ويُضطرون للمخاطرة بحياتهم من أجل الحصول على الطعام، حيث يُستهدفون برصاص الاحتلال أو يُتركون للموت عند نقاط توزيع المساعدات. وتفيد منظمات إنسانية أن النساء الحوامل أكثر الفئات عرضة للموت البطيء بسبب هذه السياسات، نتيجة لاحتياجاتهن الغذائية والصحية الخاصة.
مطالبات حقوقية دولية بالتحرك العاجل
المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان يؤكد أن هذه السياسات ترقى إلى جريمة إبادة جماعية بيولوجية، تهدف إلى القضاء على القدرة الإنجابية للشعب الفلسطيني، عبر إلحاق ضرر جسدي ونفسي بالغ بالأمهات والأطفال، وخلق ظروف معيشية قاتلة.
ويطالب المركز المجتمع الدولي بالتحرك الفوري لوقف الجرائم المرتكبة، والضغط على سلطات الاحتلال لإنهاء الحصار، وفتح المعابر لإدخال الإمدادات الطبية والإنسانية، وتوفير الحماية العاجلة للنساء الحوامل والأطفال.
كما يطالب المركز الدول الأطراف في نظام روما الأساسي بالمحكمة الجنائية الدولية بتنفيذ أوامر التوقيف الصادرة بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه السابق يوآف غالانت، وتحميلهما المسؤولية عن جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، وفي مقدمتها استخدام التجويع والإبادة البيولوجية كسلاح ضد المدنيين.
تختصر غزة مأساة جيل يُمحى قبل أن يولد. تحت الحصار والقصف والجوع، تُجبر النساء على الولادة في ظروف لا تصلح للحياة، في ظل صمت دولي مخزٍ. وبينما تُغلق الحضانات وتُدفن الأجنة، يُخنق المستقبل الفلسطيني عند مهده. وما لم يتحرك العالم الآن، فإن الاحتلال لن يكتفي بقتل الأطفال في المهد، بل سيمحو الجيل القادم من الوجود قبل أن يُبصر النور.