بقلم أكرم عطالله / من هو السيّد عز الدين الحداد غير المعروف للفلسطينيين، والذي أصبح صاحب القرار الوحيد في قطاع غزة بعد أن قتلت إسرائيل كبار القادة من العسكريين والسياسيين، هو الوحيد الذي يملك مصير مليونَي فلسطيني قتلهم الجوع من أجل صفقة بات واضحاً أنها لن تنهي الحرب، ولكنها ستنهي معاناة ألف أسير فلسطيني أو أكثر، وسيتراجع الجيش الإسرائيلي ليعود بعد انتهاء الصفقة لنفس المحاور وأكثر، وهو شرط لا قيمة له طالما أن إسرائيل قادرة على العودة دون قدرة مقابلة على منعها.
تلك صفقة على هذا القدر من التبسيط تشبه قرار قادته الذين قرروا القيام بعملية السابع من أكتوبر، وهم يعلمون أن بإمكان إسرائيل قطع الماء والدواء والغذاء والكهرباء، وتدمير القطاع بمدنه ومخيماته وجامعاته ومدارسه ومستشفياته، وتهجير الشعب وتجويعه وقتله بكل الوسائل وإذلاله. ومع ذلك قرر القيام بتلك العملية وهو يعرف أنه أمام دولة مجرمة لا تتورع عن القيام بمجازر وإبادة شعب. هذا هو واقع شعب يفتك به الجوع حداً لا يمكن وصفه، وتلك آخر ما تفتقت عنه العقلية الإسرائيلية لتغيير وعي الفلسطينيين ونزع كرامتهم رجالاً ونساء.
المسألة هنا لا تتعلق بالمفاوضين الذين يحمّلهم الرأي العام الفلسطيني مسؤولية عدم التوصل لهدنة، والذين أعرفهم وأعرف أنهم أكثر وعياً من كل العسكر الذي كان يجب تقييدهم بحدود معارفهم الإدراكية المتواضعة التي لا تصلح لاتخاذ قرارات. فتلك مهنة أهل السياسة الذين يرون ويقرؤون أبعد كثيراً من العسكريين ورجال الأمن. لكن الكوارث عبر التاريخ تحدث حين يتطاول السلاح على السياسة وتلك خلاصة التجارب القاسية، فلا يعرف شعبنا من هو الحداد ولم ينتخبه ليقرر مصيره، كما قالت صحيفة «نيويورك تايمز» قبل أسابيع، ليحدد شكل النهاية أو موعدها.
أعرف المفاوضين طاهر النونو وخليل الحية وباسم نعيم، وهم أكثر وعياً وإدراكاً للواقع، وأعرف أنهم يقفون في لحظة ثقيلة جداً لا يُحسدون عليها، ويقومون بأصعب مهمة سياسية على الإطلاق دون امتلاكهم لأدواتها على الأرض. فالسياسة هي ابنة السلاح وترجماته في الميدان، ومطلوب منهم، كما يريد الحداد الذي يقود المعركة كما قالت الصحيفة الأميركية، صفقة مشرفة، لكنه أكثر ضعفاً من أن يزودهم بما يمكنهم من الضرب بقبضاتهم على الطاولة، فلا هم قادرون على تحقيق شيء، ولا قادرون على التنصل من قرار مغامر اتخذته مجموعة صغيرة محدودة الحسابات. وما بين هذا وذاك، يتعرضون لسيل من الاتهامات والانتقادات من الغزيين الذين يهيمون على وجوههم، ويرزحون تحت كل أشكال الموت بالقنابل والصواريخ والجوع.
تلك معادلة آن الأوان لها أن تنتهي. فقد تركت «حماس» لأكثر من واحد وعشرين شهراً تجرب حظها وتتعلم السياسة لتدرك أخيراً فداحة موازين القوى، والتي سخرت منها طويلاً، وعلاقتها بصنع القرار ومتى يجب أن يتصلب أو يبدي مرونة، وماذا يعني السلاح ومعاييره ومداه وموقعه فوق أو تحت السياسة وحدوده ودوره في السياسة، وماذا يعني الميدان على الطاولة. ولكن أثناء ذلك كان الموت الجماعي والإبادة والجوع وسحق مدينة وكرامة البشر، وصولاً لمجاعة تطحن الرجال والنساء والأطفال دون أن يستطيع هذا العالم، بكل ما يملك من قيم ومعايير ومؤسسات وأموال وموازين، إنقاذ أهل غزة وإدخال الغذاء لهم، كان كل ذلك يجري بلا توقف.
هل ستستمر»حماس» في التجريب أكثر؟ وما ثمن استمرار التجريب؟ وهل تبقى ما يمكن أن يوفر لها عوامل مختلفة أو يكسر الموازين لصالحها؟ بالعكس، الوقت في صالح إسرائيل؛ فكل الذين دخلوا المعركة مع الحركة من أطراف «المحور» تم تحييدهم وخروجهم، والوقت سيّئ، خاصة أن الإسرائيلي يمعن أكثر ويبتدع وسائل وأساليب أكثر إجراماً ووحشية. وقد أثبتت التجربة الطويلة والمريرة أن لا أحد قادر على وضع حد له أو وقف هذه الإبادة والمجاعة، وإذا كانت ستستمر دون إدراك بأن الطاولة هي انعكاس الميدان، كم سيكلف هذا أكثر؟ وهل يمكن للناس التي تتساقط جوعاً وتعد الثواني والدقائق أن تصمد أكثر؟ وإلى متى؟ وارتباطاً بالميدان مَن منهما ارتباطاً بإمكانياته ممكن أن يكون أكثر مرونة؟ ولماذا تتنازل إسرائيل التي توفرت لها فرصة ليس فقط لهندسة واقع غزة بل لهندسة الشرق الأوسط؟
حين استدعى ياسر عرفات قائد قواته في بيروت سائلاً: إلى متى سنصمد؟ قال سعد صايل: حتى تصلنا قوات عربية تتحرك سيراً على الأقدام من الرباط إلى بيروت. ثم استدرك: لكنها لم تتحرك يا سيدي، ليقول عرفات: هو الخروج إذاً. وهو تراجع ما، اتكأ على صمود أسطوري ليغطيه، لكنها لعبة الموازين وحدود السلاح ولعبة السياسة لمن احترفها وفهم مفاتيحها. بات واضحاً أن الحركة تفقد مع الزمن ممكنات أكثر، والشعب يتم استنزافه أكثر، ولم تدرك الحركة في لحظة ما أنه كان عليها أن تتقدم بمبادرة تعلن فيها أنها لم تعد ذات صلة بحكم غزة، وأن غزة تحت الاحتلال، وأن تخرج من صورة هذه الخسارة الكبرى التي تسببت بها، وليس لديها مخرج سوى انتظار الموت والجوع. فليس من المنطقي أن يستمر هذا، ولا من الطبيعي أن تستمر الحركة بهذا العبث شديد الكلفة، بل الأكثر كلفة في التاريخ الفلسطيني حد سحق وإبادة شعب.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت