عسكرة الإغاثة في غزة: كيف تحوّلت المساعدات الإنسانية إلى أداة حصار وتجويع وتهجير تحت غطاء دولي؟

مواطنين يحملون مساعدات في غزة

في خضم حرب الإبادة المستمرة ضد سكان قطاع غزة منذ أكتوبر 2023، برزت قضية عسكرة المساعدات الإنسانية كواحدة من أخطر التحديات التي تواجه المدنيين المحاصرين. فبدلاً من أن تكون الإغاثة ملاذًا للحماية والنجاة، تحولت في ظل سياسات مؤسسة غزة الإنسانية (GHF) المدعومة أميركياً وإسرائيلياً إلى أداة ضغط سياسي وعسكري، ما أدى إلى سقوط آلاف الضحايا في محيط مراكز التوزيع. تقرير جديد صادر عن خبراء حقوقيين يؤكد أن هذا النموذج يمثل تهديداً وجودياً لمبادئ العمل الإنساني العالمي، ويكشف كيف استُخدمت المساعدات كسلاح للإكراه والتجويع والنزوح القسري.

خلفية عن المؤسسة

تأسست مؤسسة غزة الإنسانية (GHF) في فبراير 2025 بولاية ديلاوير الأمريكية كمنظمة غير ربحية، بدعم مباشر من الإدارة الأميركية والحكومة الإسرائيلية. وقدمت نفسها كآلية لتأمين الغذاء والدواء لسكان القطاع، لكنها اعتمدت على نموذج مركزي يقوم على إنشاء أربعة مراكز توزيع محمية بمقاولين أمنيين مسلحين وتحت تنسيق عسكري إسرائيلي مباشر. هذا النموذج سرعان ما أثار انتقادات واسعة من وكالات الأمم المتحدة والمنظمات الدولية، التي اعتبرته غطاء سياسياً يفتقر إلى الحياد والاستقلالية.

عسكرة المساعدات: المفهوم والتطبيق

وفقاً لتعريف مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA)، فإن عسكرة المساعدات تعني إخضاع الإغاثة لسلطة عسكرية غير محايدة، أو استغلالها لتحقيق أهداف سياسية وأمنية على حساب المبادئ الإنسانية الأساسية: الحياد، الاستقلالية، والنزاهة. وفي حالة غزة، تحولت مراكز التوزيع إلى "مصائد موت" بسبب تكدس المدنيين في نقاط خاضعة للرقابة العسكرية، ما أدى إلى مقتل أكثر من 4,000 فلسطيني وإصابة 11,000 آخرين خلال محاولاتهم الحصول على الغذاء منذ مايو 2025 حتى أغسطس من العام ذاته.

الأبعاد الإنسانية الكارثية

تشير بيانات وزارة الصحة الفلسطينية إلى أن حصيلة "شهداء لقمة العيش" وصلت حتى مطلع أغسطس 2025 إلى 1,568 قتيلاً و11,230 جريحاً، معظمهم من النساء والأطفال وكبار السن. ورغم الإعلان عن تخصيص 30 مليون دولار لتمويل المؤسسة من وزارة الخارجية الأميركية، ظلّت الكميات الموزعة غير كافية، وغالباً غير قابلة للطهي بسبب نقص الوقود والمياه. هذا الواقع فاقم من المجاعة المستشرية في القطاع، وعمّق معاناة الأسر التي باتت بين خيار الموت جوعاً أو القتل برصاص الاحتلال في طوابير الإغاثة.

شهادات ميدانية

منظمات مثل "أطباء بلا حدود" (MSF) وصفت مواقع التوزيع التابعة لـ GHF بأنها "مجازر متنكرة في هيئة مساعدات"، مؤكدة أن المدنيين يواجهون إطلاق نار عشوائي أثناء محاولتهم الحصول على الطعام. أما منظمة أوكسفام فقد أصدرت بياناً بعنوان "الجوع أو الرصاص" طالبت فيه بوقف فوري للنظام القائم والعودة إلى آليات الأمم المتحدة التقليدية التي تضمن وصولاً عادلاً وآمناً للمحتاجين.

الانتهاكات القانونية والأخلاقية

يخالف نموذج GHF بشكل مباشر القانون الدولي الإنساني. فالمادة 54 من البروتوكول الأول لاتفاقيات جنيف تحظر استخدام التجويع كسلاح حرب، فيما تمنع المادة 14 من البروتوكول الثاني تدمير الأشياء الضرورية لبقاء المدنيين. ومع ذلك، اعتمدت المؤسسة على استراتيجية "الغذاء مقابل النزوح"، إذ أجبرت آلاف الفلسطينيين على التوجه جنوباً في إطار خطة تهجير قسري غير معلن. هذا الاستخدام الممنهج للجوع كسلاح، وللإغاثة كأداة إكراه، يرقى إلى مستوى جرائم إبادة جماعية وجرائم ضد الإنسانية.

مقارنة مع المعايير الدولية

وثيقة مونترو لعام 2008، التي وضعت معايير لاستخدام الشركات الأمنية الخاصة في مناطق النزاع، شددت على ضرورة وجود آليات شفافية ومساءلة صارمة. غير أن نموذج GHF تجاهل هذه المبادئ بالكامل. فالتوظيف الأمني تم دون تدقيق في خلفيات الأفراد أو تدريب على حقوق الإنسان، وغياب قواعد اشتباك واضحة أدى إلى قتل المئات عند نقاط التوزيع. هذه الممارسات تعكس إخفاقاً جوهرياً في الالتزام بالمعايير الدولية، وتضع المؤسسة في موضع مساءلة قانونية دولية.

المواقف الدولية

أجمعت وكالات الأمم المتحدة، بما فيها OCHA، على رفض المشاركة في أي خطة توزيع لا تلتزم بالمبادئ الإنسانية. كما طالبت منظمات مثل CARE International وأوكسفام وأطباء بلا حدود بتفكيك نموذج GHF فوراً، واعتبرته تهديداً مباشراً لمصداقية النظام الإنساني العالمي. شبكة المنظمات الأهلية الفلسطينية وصفت التجربة بأنها "غطاء لسياسات الاحتلال، يعيد إنتاج القمع تحت لافتة المساعدات". هذه المواقف عززت الدعوات لإعادة الاعتبار لدور الأمم المتحدة كمرجعية شرعية ووحيدة لتوزيع المساعدات في غزة.

إنّ قضية عسكرة المساعدات في غزة لم تعد مجرد إخفاق عملياتي أو قصور مؤسسي، بل أصبحت تعبيراً عن اتجاه خطير يهدد جوهر العمل الإنساني. فبدلاً من أن تكون المساعدات ملاذاً للضعفاء، تحولت إلى شرك قاتل يخدم أجندات الاحتلال، ويقوض مشروعية المنظومة الدولية. هذا الواقع يفرض على المجتمع الدولي التحرك العاجل لإعادة الاعتبار لمبادئ الحياد والاستقلالية والإنسانية، وضمان أن تبقى الإغاثة أداة للحماية والكرامة، لا وسيلة للابتزاز والإبادة.

المصدر: وكالة قدس نت للأنباء - قطاع غزة