عيسى قراقع / يقول الكاتب الكبير اميل حبيبي في روايته: الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد ابي النحس المتشائل: اسال نفسي: من انا؟ امتشائم أنا أم متفائل؟ اقوم في الصباح من نومي فاحمد الله على أنه لم يقبضني في المنام، فإذا أصابني مكروه في يومي أحمده على أن الاكره منه لم يقع، فأيهما انا: امتشائم أنا أم متفائل؟
لو قدر لسعيد ابي النحس المتشائل، الشخصية التي ابتكرها الكاتب اميل حبيبي، أن يعبر الزمن الى غزة اليوم، لوجد نفسه أمام امتحان وجودي جديد، ها هو الواقع يكرر نفسه بفظاعة، لكن بثياب مختلفة، فبينما كان سعيد يعيش مأساة الفلسطينيين تحت الحكم العسكري بعد نكبة1948، ها هو أحفاده اليوم في غزة يعيشون تحت القصف وفي مواجهة ما يسمى خطة سلام لوقف الحرب طرحها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في 30 سبتمبر 2025.
يطلّ الفلسطيني اليوم على مشهد معقّد، يقف فيه بين الأمل واليأس، بين الحلم المستحيل والواقع المأساوي، وكأنّه استعاد شخصية إميل حبيبي "المتشائل" التي جمعت بين التفاؤل المُرّ والتشاؤم العبثي، في غزة حيث تتقاطع النيران والجوع والحصار، يجد الفلسطيني نفسه محاطاً بخطة أمريكية تُسمى "خطة ترامب"، وقد وُضعت كأنها قدر مكتوب يُفرض عليه لا خيار فيه.
المتشائل في غزة لا يجرؤ أن يفرح، ولا يستطيع أن يستسلم، يسمع التصفيق الدولي والترحيب من أطراف عديدة بالخطة، لكنه يعرف أن الترحيب لا يعني عدلاً، بل محاولة لإعادة تشكيل القضية الفلسطينية وفق ميزان القوة. فهل يُطلب من غزة أن تقول "نعم" وهي الغارقة في الدمار؟ وهل يملك الأسير أن يوقّع على صك سجنه؟.
يقول ابو النحس: عجيب امر الإنسان، يضحك وهو يتعذب، ويامل و هو يعرف أن لا أمل له، ويصر على أن يسمي الوهم حقيقة.
جوهر الخطة لم يكن سوى محاولة لنزع جريمة الإبادة الجماعية عن إسرائيل، وإظهارها كضحية تدافع عن نفسها، فيما الفلسطينيون يصوَّرون كأداة عنف يجب استئصالها، إنها سردية مقلوبة، تُحوِّل القاتل إلى بريء، وتحوّل الضحية إلى متهم. في هذا القلب للمشهد، يصبح "السلام" مجرّد قناع لشرعنة الاحتلال.
المتشائل في غزة ينظر إلى خطة ترامب- نتنياهو كنافذة نجاة: صمت الطائرات والرصاص، غياب القصف، هدنة مؤقتة تشبه قطرة ماء في صحراء ممتدة، لكنها في العمق تحمل نوايا الفصل والعزل، وتبهيت الاعترافات الدولية بدولة فلسطينية، بل محوها من الاصل، تبقى غزة محاصرة بالنار، والضفة تبتلع بالمستوطنات، هنا يقف المتشائل فوق الركام، يبتسم للحظة النجاة، لكنه في داخله يخشى أن تكون هذه النجاة فخا، وان يتحول وقف الحرب إلى وصاية دولية يقودها رجل العقارات ترامب، تحول غزة ال قفص منفصل والضفة إلى جغرافيا مسيجة.
قد يتوقف الموت في غزة، لكن الخوف أن يفقد الوطن السياسي ذاته، فإذا كانت النكبة اقتلعت الجذور، وحرب حزيران ضيعت المكان، فإن خطة ترامب تلغي فلسطين ككيان وهوية، وهنا يقف سعيد ابي النحس ضاحكا باكيا على وطن يتبخر من خرائط الأمم.
يقول سعيد ابي النحس المتشائل: الحرب تميت الجسد دفعة واحدة، اما خطة ترامب تميت الروح بالتقسيط، الحرب تسقط حجارة البيوت، اما الخطة تسقط حجارة القلب، هل نضحك على الحرب لأنها صريحة، ام نبكي على الخطة لأنها خديعة.
المتشائل يخرج من الرواية، يسافر من حيفا إلى غزة، يعتذر من الكاتب اميل حبيبي، وهو يردد: خطة ترامب فيها تفاصيل للمقصلة، ذبحونا بالسيوف فلم نسقط، ذبحونا بالقنابل فنهضنا، والان يريدون ذبحنا بالحبر الاسود الأمريكي.
انا المتشائل، اعرف منذ النكبة أن الحرب قد تدور في التفاصيل، في البند الثاني، في الفاصلة الثالثة، في الهامش الصغير، انا سعيد جئتكم من رواية قديمة، لكن يبدو أن الواقع أكثر خيالا من الادب، في زماني كان لكع بن لكع مسخرة على خشبة المسرح، اما اليوم فقد صار خطة دولية لوقف الحرب.
انا المتشائل في غزة، اضحك وابكي في الوقت نفسه، يقولون: الإبادة ستتوقف،فاصفق قليلا، لأنني سئمت جنازاتي اليومية، وأريد أن ينام الاطفال ليلة بلا خوف، لكنني اضحك بمرارة، اين حق تقرير المصير؟ اين العدالة الدولية في محاكمة من أحرقوا غزة؟ هل أنا مجرد بطن جائع؟ ام اننا شعب يريد أن يكون حراً ؟
قد يسأل المتشائل: هل نضحك أم نبكي؟ هل نقبل الوهم كي نبقى أحياء، أم نرفض الوهم ونموت بكرامة؟ الفلسفة هنا لا تقدّم جواباً سهلاً، لكنها تضع الفلسطيني أمام حقيقة وجودية: إن قبول الخطة يعني نهاية الحلم الوطني، ورفضها يعني استمرار النزيف. وكأنّ الفلسطيني محكوم بلعنة سيزيف، يدحرج صخرته في صعود أبدي، لا يبلغ القمة ولا ينهزم.
ما اجمل العنوان؛ وقف الحرب، وبدأت التهاليل، خرجت الجثث من تحت الانقاض، عاد الناس إلى بيوتهم الممسوحة، لكنني انا المتشائل اعرف أن الذبح ليس في العنوان، الذبح في الشروط المذلة، في البنود التي تكتب بمداد القناص، في ذكاء الأقوياء الذين يعيدون ترتيب المشهد كمن يلعب الشطرنج بدمنا، وبلاهة الضعفاء الذين يصدقوا أن السلام يمكن أن يولد من رحم المجزرة.
ما لم يكتبه اميل حبيبي هو أن الموت في هذه الأرض لا يحتاج إلى رصاصة، يكفي أن تجلس لجنة دولية حول طاولة مستديرة، وتضع أمامها مسودة خطة سلام، عندها يبدأ الذبح في الكلمات، في الجملة الاعتراضية، في الهوامش التي تسقط كالسكين على عنق المكان، وتحول الوطن إلى حاشية والشعب إلى ملحق قابل للشطب.
لو راى اميل حبيبي غزة الان لما كتب المتشائل وحمد الله أنه لم يقع أسوأ من النكبة، سيكتشف أن غزة اليوم ليست مسرحا للسخرية بقدر ما هي مسرح للدمار والمحرقة اليومية، وان المفارقات صارت اكبر من ان تختصر بمتشائل، صارت غزة نفسها رواية مفتوحة، لا تستطيع أن توازن بين التفاؤل والتشاؤم، لأن شدة الالم وجحيم الموت تجاوزت المسافة بينهما.
يا اميل، يا ساخر هذا الشرق، يا من علمتنا ان نضحك ونحن على حافة البكاء، ها نحن اليوم نعيش روايتك: حرب يريدون أن يوقفوها لكن بثمن الوطن، نعم نريد أن تتوقف الإبادة التي تلتهم غزة، لكننا لا نريد أن يتحول وقف إطلاق النار الى إبادة سياسية قومية، تمحى فيها فلسطين من الخرائط، وتختزل حقوقها في إدارة مدنية تحت وصاية أمريكية.
غزة اليوم ليست فقط جغرافيا محاصرة، بل هي سؤال الوجود الفلسطيني نفسه. كل بيت يُقصف، كل طفل يُشرّد، كل جريح يبحث عن دواء، هو جزء من رواية أكبر: رواية الإنسان الذي يرفض أن يتحوّل إلى ظل في مسرح الآخرين. المتشائل الغزّي يقول: "نعم، نحن نعرف أن الطريق مسدود، لكننا سنمشي فيه حتى النهاية".
تبدو خطة ترامب في عين المتشائل كجزء من عبث سياسي عالمي، يراهن على تعب الفلسطيني واستنزافه، لكنه يغفل أن في أعماق هذا الشعب شتاءً لا يقهر، المتشائل في غزة، برغم كل شيء، لا يفقد قدرته على السخرية من المأساة، ولا يتوقف عن الحلم، لأن الحلم ذاته أصبح شكلاً من أشكال المقاومة.
انا المتشائل وانا غزة، نضحك سويا على موت مكتوب بحبر السلام، وننهض كل مرة من تحت الحطام كقصيدة تكمل نفسها رغم المقتلة.
انا المتشائل ارقص على خيط مشدود، اضحك كي لا اموت من البكاء، وأبكي لأنني أعرف أن السلام الذي يجيئ من فوق دمائي ليس سلاما، وان في البنود الخفية لخطة ترامب هاوية من فراغ، لازلت اسمع صوت الانفجارات، وخطابا حربيا عن اسبارطة وعقلية القلعة، وليس الشرعية الدولية، تحويل غزة إلى ثكنة كبرى، وصهرها بالنار والدم والحديد.
انا المتشائل، الأولوية القصوى وقف الإبادة الجماعية المستمرة، التي تجعل القبور تتسع لمدن كاملة، ولكن البقاء بلا حرية موت مؤجل،فلا تجعلوني اتأرجح فرحا بصمت المدافع، وصارخا من خيانة التاريخ، فلسطين لا تقايض الحياة بالوطن، لأن الوطن هو الحياة.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت