رغم سريان وقف إطلاق النار في قطاع غزة، يواصل الاحتلال الإسرائيلي فرض حصار بحري مشدد، ما يستمر في حرمان الصيادين من مصدر رزقهم منذ نحو عامين. فمنذ السابع من أكتوبر 2023، يعيش صيادو القطاع واقعًا مريرًا، حيث تحولت مهنة الصيد من مورد حياة إلى طريق محفوف بالموت، في ظل استهداف متعمد ومنهجي من قبل قوات الاحتلال.
وأمس، اعتقلت بحرية الاحتلال ثلاثة صيادين من بحر مدينة غزة بعد إطلاق النار عليهم. ويواجه الصيادون يوميًا خطر الاستشهاد أو الإصابة برصاص الزوارق الحربية، أو الاعتقال أثناء محاولتهم تأمين لقمة العيش، فيما تمنع القيود البحرية أي بصيص أمل أمامهم لاستعادة حياتهم الطبيعية.
البحر ميدان الخوف والموت
محمود عطا الله، صياد من مدينة غزة، يعمل في البحر منذ أكثر من 15 عامًا. قبل الحرب الأخيرة، كان البحر بالنسبة له ولأسرته أكثر من مجرد مصدر رزق، بل كان مصدر حياة وأمل، يوفر لهم الغذاء والدخل بشكل مستقر، ويمنحهم شعورًا بالأمان والحرية.
لكن مع اندلاع الحرب الإسرائيلية قبل نحو عامين، تغيرت حياته بالكامل. فقد دمّرت الحرب مصدر رزقه الوحيد، وأجبره على النزوح المتكرر وترك المهنة التي ورثها عن والده وجده جيلاً بعد جيل، إذ كان يمتلك قارب "لانش" في ميناء غزة، لكنه لم يعد قادرًا على ممارسة عمله بسبب تدمير الميناء وفقدان أدوات الصيد، ما اضطره للعمل في بيع المعلّبات والخضروات في الأسواق الشعبية لتأمين قوت أسرته المكونة من ثمانية أفراد.
يقول الصياد محمود عطا الله لـ "قدس نت": "كنت أخرج كل صباح إلى البحر بقاربي الصغير، أصيد الأسماك بأنواعها المختلفة، وأعود في المساء لتغطية احتياجات أسرتي. كانت حياة بسيطة لكنها مستقرة، وارتبطت كل تفاصيلها بالبحر والعمل الذي ورثته عن والدي وجدي جيلاً بعد جيل".
ويضيف: "اضطررت خلال الحرب للعمل في بيع المعلّبات والخضروات في الأسواق الشعبية لتأمين قوت أسرتي المكونة من ثمانية أفراد"، واصفًا هذه التجربة بـ "المريرة والصعبة".
ورغم توقف الحرب، يلفت عطا الله إلى أن حصار الاحتلال البحري مستمر، حيث يضطر الصيادون لدخول البحر تحت نيران الزوارق والمخاطرة بأرواحهم لتوفير لقمة العيش لعائلاتهم. ويشير إلى أنّ "قصف موانئ الصيد في بداية الحرب دمر معظم القوارب، كما فقدنا كل معدات الصيد التي نعمل بها منذ عشرين عامًا. الحرب أجبرت الصيادين على العودة إلى الأدوات البدائية، مثل المجداف وشبكة واحدة، أو ربط الفلين العائم ووضع الشباك عليه، مما يقلل كميات الصيد مقارنة بما كانت عليه قبل الحرب".
ويتابع: "زوارق الاحتلال تلاحقنا في البحر وتطلق النار علينا، والطائرات تقصفنا أيضًا على الشاطئ أثناء إصلاح القوارب والشباك. وقد أصيب واعتقل عدد من الصيادين مؤخراً".
ويختم بالقول إنّ "شحّ معدات الصيد وارتفاع أسعار لوازم الإصلاح يزيدان من معاناة الصيادين، ويجعلان من البحر مصدر خطر أكثر من كونه مصدر رزق".
شح المعدات وملاحقة الصيادين
من جهته، يؤكد الصياد محمد مقداد لـ "قدس نت"، أنّ قوات الاحتلال تتعمد استهداف الصيادين بالرصاص واعتقالهم وإغراق قواربهم، سواء قبل الحرب أو أثناءها وحتى بعدها، مبينًا أنّ هذه الممارسات أدت إلى استشهاد عدد من الصيادين، واعتقال آخرين تم اقتيادهم إلى مراكز التحقيق داخل الأراضي المحتلة، إضافة إلى مصادرة قواربهم ومعداتهم، ما فاقم من حجم المعاناة المعيشية لعائلاتهم.
ويشير مقداد إلى أنّ الصيادين واجهوا خلال فترات الحصار ظروفًا قاسية للغاية، إذ منع الاحتلال إدخال المستلزمات البحرية الضرورية، وعلى رأسها مواد صيانة القوارب مثل "الفيبرجلاس" وغيرها من الأدوات الأساسية لاستمرار عملهم.
ويستذكر مقداد قصصًا مأساوية حدثت أمامه مباشرة، قائلاً: "رأيت زميلي مصطفى يُصاب برصاصة في ساقه أثناء محاولته إصلاح قاربه على الشاطئ، وقارب آخر أغرق بالكامل مع صيده قبل أيام، بينما كان أبناؤه ينتظرون في المنزل لقمة العيش. وفي حادث آخر، تم اعتقال ثلاثة من أصدقائنا بعد أن اقتحمت الزوارق الإسرائيلية بحر غزة فجراً، وأخذتهم إلى مراكز التحقيق".
ويختم مقداد بالدعوة لرفع الحصار البحري بشكل كامل والسماح للصيادين بالإبحار حتى مسافة 20 ميلًا بحريًا، بما يضمن لهم حرية العمل والوصول إلى مناطق الصيد الغنية بالأسماك، مؤكدًا أن الصيادين لا يطلبون سوى العيش بكرامة فوق بحرهم، الذي تحول إلى سجن كبير بفعل القيود والتهديدات المستمرة.
خسائر بالملايين وتدمير الموانئ يشل الصيد
وتعقيبًا على ذلك، يؤكد نزار عياش، نقيب الصيادين في قطاع غزة، أنّ قطاع الصيد البحري تعرض لدمار هائل خلال الحرب الإسرائيلية الأخيرة، حيث تجاوزت الخسائر المالية 75 مليون دولار نتيجة تدمير البنية التحتية البحرية والموانئ، ما شل أحد أهم القطاعات الإنتاجية وحرم آلاف العائلات من مصدر رزقها الأساسي.
ويوضح عياش لـ "قدس نت" أنّ الحرب التي استمرت أكثر من عامين دمرت ميناءي شمال القطاع وغزة الرئيس بالكامل، وتضرر نحو 70% من ميناءي الوسطى والجنوب، إضافة إلى تدمير المراكب والمعدات والمخازن وفقدان أدوات الصيد ووسائل الملاحة، ما يجعل من الصعب على الصيادين التعويض أو الإصلاح.
ويبيّن أن أكثر من 4000 صياد كانوا يعملون في غزة قبل الحرب، يمتلكون أكثر من ألف قارب بمحرك، إلى جانب 90 حسكة صغيرة، موزعين على خمسة مراسٍ وميناء غزة الوحيد، وينتجون أكثر من 4 آلاف طن سنويًا من أصناف الأسماك.
ويلفت عياش إلى أن الاحتلال تعمّد استهداف القطاع منذ أكثر من 17 عامًا، عبر تقليص مساحة الصيد من 20 ميلًا بحريًا إلى 6 أميال، وملاحقة الصيادين بالرصاص وإغلاق البحر أحيانًا، ما يحرمهم من عملهم، مشيراً إلى أنّ الاحتلال ما زال يفرض قيودًا صارمة على حركة الصيد، محددًا نطاق الإبحار بالقوارب الصغيرة أو "الحسكات" فقط، ما يقلص الإنتاج اليومي ويضاعف معاناة الصيادين.
ويدعو عياش المجتمع الدولي والمؤسسات الإغاثية إلى التحرك العاجل لإعادة إعمار الموانئ وتعويض الصيادين، محذرًا من أن استمرار تعطّل الموانئ يهدد الأمن المعيشي لآلاف الأسر ويرفع معدلات الفقر والبطالة في القطاع الساحلي.
يبقى صيادو قطاع غزة محاصرين بين حصار بحري مستمر واستهداف يومي من قبل الاحتلال، وسط خراب الموانئ والمعدات وندرة أدوات الصيد، ما حول البحر من مصدر رزق وحياة إلى ساحة خوف ومعاناة دائمة.
ومع استمرار القيود وارتفاع معاناة العائلات، تظل مطالب الصيادين واضحة: رفع الحصار البحري، إعادة إعمار الموانئ، وتعويضهم عن الخسائر لضمان العيش بكرامة والعمل بحرية فوق بحرهم، الذي أصبح اليوم رمزًا للصمود في وجه الاحتلال والمحنة المستمرة.
