تقرير الضغوط على الزراعة الفلسطينية بين المصادرة والحصار: مواسم ضائعة وسبل عيش مهددة

شجرة زيتون فلسطين.jpg

بين أوامر عسكرية تُقيد الوصول إلى الأرض في الضفة الغربية وحصار ممتد ترافقه جولات قتال مدمرة في قطاع غزة، يمرّ القطاع الزراعي الفلسطيني بأحد أكثر أعوامه قسوة، مع انعكاسات مباشرة على الأمن الغذائي ومداخيل عشرات آلاف الأسر التي تعتمد على الزراعة والصيد والرعي مصدرًا للرزق. وتفيد بيانات ميدانية وتقارير حقوقية وإنسانية بأن أنماط الانتهاكات اتخذت طابعًا ممنهجًا، من مصادرة الأراضي وشق طرق التفافية وتوسيع مستوطنات، إلى تجريف الحقول وتدمير البنية التحتية الزراعية ومنع إدخال المستلزمات، ما رفع الكلفة وزاد العزلة ورسّخ تبعية متزايدة للمساعدات. 

الضفة الغربية: مصادرات متصاعدة و«رهاب زراعي»

تشير معطيات صادرة عن جهات فلسطينية تتابع ملف الاستيطان إلى تصاعد واضح في استخدام المنظومة القانونية الإسرائيلية لفرض سيطرة على أراضٍ فلسطينية مصنفة زراعية أو ذات أهمية جغرافية، عبر أوامر «وضع اليد» و«الاستملاك» و«إعلان أراضي دولة»، إلى جانب شق طرق التفافية تُجزئ الحيازات وتعزلها. فبحسب تقرير نصف سنوي لعام 2025، صدرت أوامر شملت «وضع يد» على مساحات تقدَّر بنحو 360 ألف دونم، إلى جانب أمر استملاك واسع النطاق وأوامر بإعلان مساحات كـ«أراضي دولة». 

وتقول منظمات حقوقية إن نظام التراخيص في المناطق المصنفة (ج) – التي تشكل أكثر من نصف مساحة الضفة الغربية – بات أداةً فعالة في تقويض الإنتاج الزراعي وتهجير المزارعين، مع إصدار مئات الإخطارات بهدم منشآت زراعية وآبار وبيوت بلاستيكية بحجة «البناء غير المرخص» خلال النصف الأول من العام الجاري. 

في الميدان، يتحدث مزارعون عن مزيج من اعتداءات جسدية وتخريب للمحاصيل والمعدات ومنعٍ للوصول إلى الحقول، وهو ما تصفه منظمات محلية بـ«الرهاب الزراعي» الذي يولِّد خوفًا مزمنًا يُثني المزارعين عن العمل ويُضعف القدرة على الصمود. «أتلف المستوطنون محصول القمح في أرضي أمام أعيننا»، يقول عاهد عوض عودة من بلدة قصرة جنوب نابلس، موضحًا أن ما جرى كان «من دون أي حماية». 

وبحسب مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا)، سُجل منذ مطلع 2025 أكثر من ألف هجوم استيطاني استهدف تجمعات فلسطينية، أسفرت عن قتلى وجرحى ودمار في الأشجار والمحاصيل، فيما وثقت هيئة فلسطينية مختصة عشرات محاولات إقامة بؤر جديدة وعمليات تجريف واسعة واقتلاع آلاف أشجار الزيتون. 

ويبرز خلال العام الجاري نمط «الاستيطان الرعوي» الذي يستخدم الرعي وتربية المواشي بوابةً للسيطرة الفعلية على مساحات مفتوحة من الأراضي الزراعية عبر خيام وبركسات مؤقتة تتوسع تدريجيًا. وتقدِّر جهات متابعة وجود أكثر من 130 بؤرة رعوية حتى مطلع 2025، تُسيطر على نحو 185 ألف دونم، مع خطط رسمية لتخصيص آلاف الدونمات الإضافية للرعي. 

إلى ذلك، تُظهر شهادات ميدانية من الأغوار الشمالية صعوبة متزايدة في الوصول إلى مصادر المياه والحقول، سواء بسبب أوامر عسكرية تُغلق مناطق واسعة بذريعة «ضرورات أمنية» أو بفعل تقييد حفر الآبار وترميمها، ما يرفع كلفة الإنتاج ويهزّ جدوى الزراعة البعلية والمروية على السواء. «أملك عشرين دونمًا ورثتها عن والدي. منذ سبعة أشهر، أقيمت بؤرة استيطانية على جزء منها، وصرنا ممنوعين تمامًا من الوصول»، يقول المزارع رشيد الخوضيري من قرية بردلة، مضيفًا أن الأشجار ماتت عطشًا بعد منع الري. 

ويرى خبراء زراعيون ونقابيون أن هذه الأدوات – القانونية والميدانية – تعيد تشكيل المشهد الديمغرافي والاقتصادي في الريف الفلسطيني، عبر إضعاف سلاسل التزويد وعزل القرى والبيارات عن مراكز التوزيع، وتغيير أنماط السفر والعمل، بما ينعكس مباشرة على مساهمة الزراعة في الناتج المحلي وعلى معدلات البطالة والفقر في التجمعات الريفية. 

غزة: حصار طويل ودمار واسع وبنية تحتية منهكة

في قطاع غزة، أخذت الانتهاكات طابعًا يرتبط مباشرة بالحصار الممتد منذ أكثر من 18 عامًا وجولات القتال المتكررة، مع تدمير واسع للأراضي والبنية التحتية الزراعية وفرض «منطقة عازلة» موسَّعة على طول الحدود الشرقية والشمالية، يُمنع فيها النشاط المدني ولا سيما الزراعي. وتفيد تقديرات حديثة بأن أكثر من 80% من الأراضي الزراعية في القطاع تضررت منذ الحرب الأخيرة، وأن نسبة كبيرة من الحقول باتت غير متاحة للزراعة أو مصنفة «مناطق محظورة» رغم عدم تضررها الفعلي، فيما تقلصت المساحات المزروعة بالخضروات من نحو 93 ألف دونم إلى أربعة آلاف فقط. 

وتُظهر البيانات تضرر الآبار والصوب الزراعية بنسب مرتفعة، مع تفاوت الخسائر بين المحافظات؛ حيث سجلت خان يونس وشمال غزة ودير البلح وغزة ورفح أعلى نسب الضرر في الأراضي والبساتين. ويقول مهندسون زراعيون محليون إن الاستخدام المكثف للمعدات الثقيلة والقصف أدى إلى تدمير بنية التربة وتلوُّثها بمواد سامة، ما سيترك أثرًا طويل الأمد على الإنتاجية. 

وعلى الأرض، تتكرر روايات المزارعين عن فقدان المواسم والأصول الإنتاجية والتحول القسري إلى أعمال هامشية. «قبل الحرب كنا نزرع الفراولة ونصدّر للخارج ونشغّل شبابًا من المنطقة. بعد السابع من أكتوبر مُنعت من دخول أرضي التي جفّت محاصيلها وتحوّلت إلى جزء من المنطقة العازلة»، يقول هاني المصري، أحد مزارعي شمال القطاع. 

كما تضرر قطاع الصيد «بشكل كارثي»، وفق تقديرات أممية قدّرت نسبة الضرر في ممتلكات الصيد – من قوارب وأحواض وبنية تحتية – بنحو 72%، بخسائر تقارب 84 مليون دولار، بعد استهداف القوارب ومرافق الميناء خلال الأسابيع الأولى من الحرب. وإلى جانب ذلك، تؤدي القيود على استغلال المياه الجوفية إلى تعميق الأزمات المعيشية والبيئية. 

تداعيات ذلك تتجاوز الاقتصاد إلى الأمن الغذائي والصحة العامة. فمع تقلص الإنتاج المحلي وتعثر الاستيراد والمساعدات، ارتفعت أسعار السلع الزراعية وتزايدت مؤشرات سوء التغذية بين الفئات الأكثر هشاشة. ويقول مهندس زراعي محلي إن القطاع كان يقترب قبل 2023 من مستويات اكتفاء ذاتي في بعض المحاصيل والدفيئات، لكنه اليوم يعتمد إلى حد كبير على المعونات التي تعوقها إغلاقات المعابر. 

موارد المياه والبيئة: «عنق زجاجة» إضافي

في الضفة، ينعكس التحكم بالمصادر المائية على قدرة المزارعين على الريّ وتربية المواشي، محوِّلًا المياه إلى أداة ضغط اقتصادي واجتماعي، ودافعًا أصحاب الحيازات إلى الهجرة القسرية. وتستشهد منظمات حقوقية بحالات استحواذ على عيون وينابيع لصالح المستوطنات ومنع ترميم أو حفر آبار جديدة، بما يهدد المنظومة البيئية الزراعية ويقلّص القيمة الاقتصادية للأراضي. 

وفي غزة، يُضاف إلى ذلك تصريف كميات كبيرة من مياه الصرف في البحر أو قرب المناطق الزراعية، ما أدى إلى تلوث المياه والتربة وزيادة المخاطر الصحية للسكان، بالتوازي مع تعطل دورات الزراعة الطبيعية وهشاشة متزايدة للنظم البيئية. 

أطر قانونية ومواقف متباينة

يؤكد خبراء قانون دولي أن تدمير الممتلكات الخاصة في الأراضي المحتلة محظور بموجب المادة 53 من اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949، إلا في حالات الضرورة العسكرية القصوى، وأن التدمير واسع النطاق للممتلكات دون ضرورة يعتبر جريمة حرب وفق نظام روما الأساسي. كما تنص اتفاقية لاهاي لعام 1907 على وجوب احترام الملكية الخاصة وحظر مصادرتها من قبل قوة الاحتلال. وتدعو هذه القراءات إلى مساءلة المسؤولين عن انتهاكات مزعومة وإلى تحرك دولي لوقفها. 

في المقابل، تقول السلطات الإسرائيلية إنها تتحرك وفق اعتبارات أمنية لمنع هجمات مسلحة وحماية المستوطنات والبنية التحتية، وإن بعض القيود مؤقت ومرتبط بظروف ميدانية. غير أن منظمات حقوقية محلية ودولية ترى أن نمط القرارات واتساع نطاقها وتحول «المؤقت» إلى دائم عمليًا يضعف رواية الضرورات العسكرية ويُظهر سياسة ضمّ زاحف، على حد وصفها. 

حياة يومية في كفة

على أطراف الأغوار الشمالية، يروي مزارعون تغيّر أنماط الزراعة تحت الضغط؛ إذ دفعت صعوبات الوصول إلى المياه ومنع الريّ إلى التحول نحو زراعات بعلية أقل كلفة لكنها أقل مردودًا، مع أثر مباشر على دخل الأسر والثروة الحيوانية التي كانت تعتمد على مخلفات المحاصيل. «عدّلنا نمط الزراعة أكثر من مرة… لكن ذلك أثّر سلبًا على دخل الأسرة»، يقول الخوضيري. 

وفي شمال غزة، يقول محمد يوسف، وهو مزارع زيتون من بيت حانون، إن أرضه التي كانت تدرّ محصولًا يكفي الأسرة وتزيد، باتت ضمن «المنطقة العازلة» وصار الوصول إليها «مستحيلًا» بفعل القيود والمخاطر، وإن الأشجار «تعطّشت وماتت» بعد انقطاع سبل الريّ والعناية. 

وتتضمن شهادات أخرى حوادث إطلاق نار مميتة خلال أعمال زراعية قرب الحدود. يروي ماهر حرب أنه خرج مع نجليه لسقاية الأرض وقطف بعض الثمار «فاستهدفتنا طائرة مسيرة، فقُتل أحد أبنائي وأصيب الآخر»، مؤكدًا أنهم كانوا يرتدون ملابس مدنية ويحملون أدوات زراعية. 

اقتصاد وسبل عيش على المحك

اقتصاديًا، أدى تقلص المساحات المزروعة وصعوبة الحركة بين المناطق والقيود على إدخال المدخلات إلى تراجع مساهمة الزراعة في الناتج المحلي وارتفاع البطالة والفقر في القرى الريفية. ويشير نقابيون إلى أن مواسم القطاف والحصاد – التي طالما كانت حدثًا اجتماعيًا يعزز الروابط – تراجعت أو تعطلت، ما فاقم مظاهر العزلة وتآكل العلاقة الرمزية مع الأرض لدى الأجيال الشابة. 

في غزة، تحوَّل جزء واسع من القوى العاملة الزراعية إلى نازحين أو عاطلين عن العمل، وتراجعت الصادرات والإنتاج المحلي، وارتفعت الأسعار مع نقص المعروض واستمرار إغلاق المعابر أو تعثرها. وتُظهر تقديرات منظمات دولية أن نحو 56% من الاستهلاك الأسري للسلع الزراعية كان يُغطى عبر الاستيراد، فيما كان الإنتاج المحلي يغطي 44% قبل الحرب؛ وقد توقفت هذه النسبة عمليًا خلال العدوان الأخير. 

إلى أين؟

على المدى القصير، يحاجج خبراء بأن إجراءات عاجلة قد تحدّ من الانزلاق: فتح ممرات آمنة لفرق صيانة الآبار وشبكات الري، السماح بدخول البذور والأسمدة ومواد الصيانة المصنفة «ازدواجية الاستخدام» وفق آليات رقابية متوافق عليها، ووقف الاعتداءات على المزارعين، إلى جانب دعم نقدي مؤقت للأسر الأشد تضررًا. وعلى المدى الأبعد، تُجمع أصوات مهنية على أن استدامة الزراعة الفلسطينية تمر عبر حماية حيازات الأرض من المصادرة، وضمان وصول آمن للمياه والطرق الزراعية، وإعادة تأهيل التربة الملوثة والمتدهورة بيئيًا. 

«الزراعة بالنسبة للفلسطينيين ليست فقط مصدر رزق، بل ارتباط وجودي بالأرض»، يقول مهندس زراعي من الضفة، محذرًا من أن استمرار الاعتداءات وتخريب الحقول «سيحوِّلها على المدى البعيد إلى أراضٍ غير صالحة للزراعة». وبينما يؤكد المزارعون تمسكهم بالبقاء والعمل في حقولهم، يترقبون إجراءات ملموسة تُعيد فتح المياه والطرق وتكسر حلقة الخسارة الموسمية

المصدر: خاص وكالة قدس نت للأنباء - رام الله - قطاع غزة