فقدت عينها نتيجة صاروخ..

تقرير السرطان والحصار: قصة ريتال التي تموت ببطء في غزة

بقلم: أحمد ياسر

في حي الشيخ رضوان المكتظ بمدينة غزة، كانت الطفلة ريتال العالول (4 أعوام) تلهو قرب منزلها في منطقة تل الزعتر، دون أن تدرك أن وهج صاروخ "إسرائيلي" سيسقط على مقربة منها ليطفئ نور عينها، ويحرمها ملامح الطفولة قبل أن تكتمل.

وفي إحدى ليالي الحرب العنيف، سقط صاروخ يحمل مواد متفجرة محرّمة دوليًا بالقرب من منزل عائلة العالول، وانبعثت منه إشعاعات قاتلة لم تترك سوى الألم والدمار.

وبعد أيام من النزوح والاختناق والذعر، بدأت علامات الوهن تظهر على جسد الطفلة؛ تورمت عيناها وضعفت حركتها، فظنّت والدتها أن الأمر مجرد صدمة نفسية من أصوات القصف، لكن الحقيقة كانت أشد مرارة.

يقول والدها يوسف العالول لـ"قدس نت"، بصوت تختنق حروفه بالألم: "بعد أيام من نزوحنا إلى الشيخ رضوان، استيقظت ريتال عاجزة عن الحركة، جسدها الصغير متيبّس وعمودها الفقري متشنّج، لم أفهم ما يحدث، وكل ما استطعت فعله وسط انهيار المنظومة الصحية هو حملها من مستشفى لآخر أبحث لها عن بصيص نجاة."

وبعد سلسلة من الفحوصات وصور الأشعة، أخبر الأطباء العائلة أنّ ريتال مصابة بورم أرومي عصبي نادر (Neuroblastoma)، أحد أخطر أنواع السرطان لدى الأطفال، وقد انتشر في عينها اليمنى مهددًا العين الأخرى، كما أثر على العصب المسؤول عن الحركة.

ويُعد الورم الأرومي العصبي من أخطر أنواع السرطان لدى الأطفال، ويستدعي علاجًا عاجلًا في مراكز متخصصة خارج القطاع، في ظل نقص القطاع الصحي في غزة من العلاج الكيميائي الكامل وأجهزة المتابعة الدقيقة، ما يجعل المرض يتقدم بسرعة مهددًا حياة الطفل.

ويضيف العالول، بصوت يغلبه الصدمة والحزن: "في البداية لم نصدق ما يحدث، كانت ريتال تلعب وتضحك وتركض، والآن لم تعد قادرة على الوقوف، ودمها انخفض إلى 4، وتعيش على وحدات الدم والمحاليل بدلاً من ألعاب الطفولة."

ويتابع: "كل يوم نراقب تدهور حالتها، وكل يوم تضعف أكثر، ندعو الله أن تفتح أبواب رحمته قبل أن تُغلق عينها للأبد"، لافتاً إلى أنّ "مأساة ريتال تحولت من مرضٍ خبيث إلى كارثة إنسانية، إذ صدرت لها تحويلة علاجية عاجلة قبل أكثر من شهرين إلى مستشفى متخصص خارج قطاع غزة، لكن إغلاق معبر رفح حال دون سفرها لتلقي العلاج".

ريتال، الطفلة التي لم تعرف من حياتها سوى صخب الانفجارات، محتجزة اليوم بين الحياة والموت في غرفة ضيقة محرومة من أبسط مقومات العلاج: لا أدوية كافية، لا أجهزة متقدمة، ولا بصيص أمل للسفر قريبًا لتلقي العلاج المنقذ.

ويؤكد العالول أنه لم يطلب المستحيل، كل ما يريده هو أن تبقى ابنته على قيد الحياة سليمة: "أنا مش طالب معجزة فقط بدي بنتي تعيش، وبدي حد يسمعنا، يفتح المعبر، ويوصل صوتنا، هل أنتظر موتها أم اتصالكم؟"

ويصرخ العالول بحرقة وهو يمسك صغيرته، ثم يصمت لحظة، قبل أن يضيف بصوت يئن من الألم: "كانت تحب الألوان والرسم، تملأ جدران المنزل ببهجة طفولية، واليوم صارت الألوان تؤلم عينيها، والضوء يزعجها، ولم تعد تقدر حتى على حمل القلم، كما أنها فقدت شهيتها، وتعتمد على المغذيات الوريدية، وجسدها النحيل يذبل يومًا بعد يوم، في ظل عجز كامل عن توفير العلاج المناسب."

ويشير والدها إلى أنّ العلاج الكيميائي الذي تحتاجه غير متوفر بشكل كامل، وأن غياب المتابعة الدقيقة يجعل المرض يتقدم أسرع من قدرتهم على مواجهته.

ويختم والدموع تغمر عينيه: "كلما تنظر إلى المرآة، تسألني: بابا، وين عيني؟ ليه ما بشوف زي قبل؟" أسئلة بلا إجابة تصطدم بصمتٍ لا تملك الكلمات أي إجابة له.

ويطلق نداءً عاجلاً إلى المؤسسات الطبية والصحية، مثل الصليب الأحمر ومنظمة الصحة العالمية، وإلى الجهات المعنية بالسفر الطبي، مستنجدًا بحياة ابنته التي تواجه الموت ببطء، دون أن يجد أحدًا يحرك ساكنًا لإنقاذها.

ريتال اليوم ليست مجرد طفلة مريضة، بل رمز لمعاناة آلاف الأطفال الفلسطينيين الذين يكابدون بين الحرب والفقر ونقص الرعاية الصحية.

وبحسب إحصائيات رسمية، يعاني أكثر من 54,600 طفلًا دون سنّ الخامسة في قطاع غزة من سوء تغذية حادّ، منهم ما يقارب 12,800 طفلًا في حالة شديدة الخطورة. كما حُرم أكثر من مليون طفل من المساعدات الإنسانية الحيوية نتيجة إغلاق المعابر وانقطاع الإمدادات، ما ينذر بارتفاع عدد الوفيات بين الأطفال بسبب أمراض يمكن الوقاية منها.

هذه الأرقام المعتمدة تؤكد أن ما يواجهه قطاع الأطفال في غزة ليس أزمة عابرة بل مأساة متكاملة، وتتطلب تحركاً عاجلاً من المجتمع الدولي لفتح المعابر وتمكين وصول العلاج والمساعدات قبل فوات الأوان.

المصدر: قدس نت - قطاع غزة