مصطفى إبراهيم
بينما تنشغل العواصم في مشاورات "ما بعد الحرب" على غزة، تبدو رفح اليوم مركز الصراع الحقيقي على مستقبل القطاع، لا من حيث الدمار فحسب، بل من حيث المعنى السياسي لما يُراد تمريره تحت لافتة "الاتفاق الأميركي للسلام".
فالمعضلة التي تتحدث عنها التقارير — مصير مقاتلي كتائب القسام المحاصرين في أنفاق رفح — ليست تفصيلاً أمنياً، بل جوهر ما تسعى واشنطن لفرضه: إخراج المقاومة من المشهد تحت غطاء "المرحلة الثانية" من الاتفاق، أي مرحلة الترويض السياسي والأمني.
تشير المعلومات المتقاطعة من "العربي الجديد" والقناة 12 العبرية و"هآرتس"، إلى أن القاهرة والدوحة وأنقرة تبذل جهوداً مكثفة لإيجاد صيغة تحفظ ماء وجه الجميع، وتمنع تفجير وقف إطلاق النار الهش، بينما تمارس الإدارة الامريكية ضغوطاً على إسرائيل لقبول مقترح "ممر آمن" للمقاتلين، يتيح خروجهم من الأنفاق إلى منطقة آمنة، أو حتى إلى دولة ثالثة لعدة سنوات، في ما يبدو أنه مشروع "نفي مؤقت" أكثر منه تسوية سياسية.
الفكرة التي تطرحها إدارة ترامب (من خلال جاريد كوشنر وستيف ويتكوف) تتجاوز البعد الإنساني إلى ما هو أبعد: تحويل ملف رفح إلى نموذج أولي لنزع سلاح حماس. بكلمات أخرى، اختبار لمرحلة ما بعد المقاومة في غزة، حيث يُكافأ من يتخلى عن سلاحه بالعفو، ويُعاقب من يتمسك به بالموت أو النفي.
لكن المعطيات الميدانية والسياسية تقول شيئاً آخر. فبحسب مصادر فلسطينية، ترفض حماس تماماً فكرة الترحيل، وتتمسك ببقاء مقاتليها داخل القطاع ضمن ترتيبات أمنية بضمانات دولية، وهو ما يعيد الصراع إلى مربعه الأول: هل يمكن لإسرائيل أن تتعايش مع وجود مقاومة غير مهزومة داخل غزة؟ الجواب معروف، لكنها مجبرة اليوم على تجرّع مرارة الواقع.
اللافت أن إعادة جثمان الضابط الإسرائيلي هدار غولدين، الذي قُتل في عدوان 2014، جاءت في توقيت محسوب سياسياً، كإشارة من حماس إلى استعدادها للانخراط في تسويات محدودة بشرط عدم المسّ بجوهر وجودها العسكري. ووفق مصادر تركية، لعبت أنقرة دوراً حاسماً في هذه الخطوة، عبر مقايضة غير معلنة بين تسليم الجثة وتسهيل حلّ أزمة مقاتلي رفح.
في المقابل، تسعى إسرائيل — كما تنقل هيئة البث الرسمية "كان 11" — لتصوير أي اتفاق محتمل كـ "استسلام مشروط": لن نقتلهم إذا استسلموا، بل سنعتقلهم ونستجوبهم. إنها محاولة يائسة لإعادة إنتاج خطاب الردع، بعدما تآكل بفعل الحرب الطويلة والانسداد السياسي.
الولايات المتحدة، من جهتها، تمارس ضغطاً متزايداً على حكومة نتنياهو للقبول بتسوية تفتح الباب أمام تنفيذ المرحلة الثانية من خطة ترامب، التي تشمل إدخال فرق أجنبية إلى غزة، وبدء إعادة الإعمار تحت إشراف دولي، وتأسيس "مدينة نموذجية" في رفح تكون نواة لـ "غزة جديدة خالية من حماس" كما ورد في تسريبات إسرائيلية.
لكن كل ذلك يفترض أن رفح سقطت، وأن المقاومة انتهت. وهذا، ببساطة، لم يحدث.
فالمقاتلون الذين تحاول واشنطن نفيهم، والذين تريد إسرائيل أسرهم أو قتلهم، ما زالوا هناك، في قلب الأنفاق، يملكون ورقة لم تُكسر بعد: شرعية البقاء في أرضهم.
لهذا، يبدو أن “صفقة رفح” ليست سوى نسخة محدثة من معادلة الإذلال التي فشلت إسرائيل في فرضها بالقوة. اليوم تُعاد صياغتها بوساطة أميركية، وتغليف إنساني، وبابتسامات دبلوماسية من أنقرة والدوحة. لكنها تظل في جوهرها مشروع نزع إرادة شعب تحت لافتة الهدوء و"السلام".
وربما تكون واشنطن قد أحسنت قراءة الواقع حين أدركت أن إسرائيل غير قادرة على قتل الجميع، لكنها لم تدرك بعد أن إرادة الفلسطينيين لا تُنفى ولا تُنفّذ عبر اتفاقات مكتوبة في شرم الشيخ. فرفح ليست "مشكلة أمنية" يمكن إخراجها عبر ممر، بل عقدة سياسية وأخلاقية تكشف عدم قدرة الاحتلال عن إنهاء ما بدأه.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت
