إسرائيل تريد غزة بلا إعمار وبلا سلاح… وبلا سيادة أيضاً

بقلم: مصطفى إبراهيم

مصطفى ابراهيم.jpg

مصطفى إبراهيم:- لا تخفي إسرائيل شيئاً هذه الأيام. هي لا تناور ولا تتظاهر بالبحث عن حلول، بل تعلن عملياً وبكل صلف أن المرحلة الثانية من خطة ترامب ليست سوى ورقة محترقة. شروط هذه المرحلة، وعلى رأسها تخلي حماس عن سلاحها، تراها وهماً لا مكان له على الطاولة. بالنسبة لها، لا أحد قادر على نزع سلاح غزة سوى الجيش الإسرائيلي، وبقوة النار وحدها. وكل ما عدا ذلك محاولات تجميل سياسية لا تغيّر شيئاً في “جوهر المسألة”: استمرار السيطرة الإسرائيلية على القطاع تحت أي اسم أو صيغة.

إسرائيل ترفض الانتقال إلى المرحلة التالية من الخطة لأنها تتطلب انسحاباً واسعاً من مناطق تفرض عليها سيطرة عسكرية تكاد تكون مطلقة. بالنسبة لها، الانسحاب مخاطرة غير ضرورية، وتقويض لواقع تعتبره مثالياً: نصف القطاع محتل مباشرة، ونصفه الآخر غارق في دمار يمنع أي إعادة إعمار جدي. بهذا الواقع، تستطيع إسرائيل تمديد التجويع والحصار والاغتيالات “المنخفضة الوتيرة” بلا مقاومة سياسية أو عسكرية حقيقية.

الحقيقة أن إسرائيل لا تريد خطة، بل تريد فراغاً سياسياً: وضعاً مجمّداً يتيح استمرار السيطرة من دون أن تُحاسَب أو تُجرّ نحو التزامات. فمرحلة الإعمار، أي إعمار ، تعني شروطاً، ورقابة، ونقاشاً حول مستقبل غزة. وإسرائيل تريد كل شيء إلا هذا المستقبل.

لا تتوقف المخاوف الإسرائيلية عند فكرة الانسحاب. فمجرد طرح “قوات دولية” يثير قلق المؤسسة العسكرية بشكل كبير لأنه يعني عيناً رقابية فوق الرأس، حدوداً على النار، وشركاء في الميدان لا يمكن إسكاتهم. ولذلك ترى إسرائيل أن أفضل طريقة لعرقلة هذا المشروع هي التصعيد المدروس: ضربات محسوبة ترفع كلفة المشاركة وتجعل الدول المرشحة تعيد النظر في التزاماتها.

إسرائيل تريد غزة مسرحاً مغلقاً، لا قوات دولية، ولا مراقبين، ولا شركاء. تريد حرية كاملة في القتل والتجريف والهدم، تحت غطاء سياسي أمريكي لا يخفي دعمه. تشير التقديرات إلى أن إدارة ترامب لا تجد سبباً للتدخل، طالما الهدوء النسبي مستمر، وما دامت إسرائيل “تتحرك ضمن الحدود المقبولة”. والأخطر أن واشنطن لا تعارض عمليات الاغتيال والضربات الموضعية، بل تراها جزءاً من الضغط الذي قد يسهّل التقدم السياسي.

وسط هذا المشهد، يكشف دبلوماسيون أوروبيون عن توتر حاد داخل مركز التنسيق الدولي المدني الأمني في كريات غات، حيث يشكو الأوروبيون من أن إسرائيل تفرض فيتو على أي دور للسلطة الفلسطينية وتُجمّد الملفات الأساسية، فيما تُتخذ القرارات الحقيقية في واشنطن لا في الميدان.

وهكذا تتحول “الهدنة” إلى غطاء، و”وقف النار” إلى مساحة قتل منخفض الإيقاع، و”الضغط السياسي” إلى تفويض بعمليات تصفية.

تقدّر إسرائيل أن حماس، رغم محاولاتها ترميم ما أمكن، لا تريد كسر وقف إطلاق النار. فالهدوء بالنسبة للحركة هو نافذة البقاء الوحيدة، وفرصتها لإعادة بناء جزء من قوتها. كل خياراتها صعبة: عدم الرد يعزز استهدافها، الرد القوي يبرر حرباً جديدة، والرد الرمزي يثبت سقف ردودها المنخفض.

أخطر ما في المشهد أن إسرائيل تعتبر اللحظة الحالية “مثالية”: استمرار وقف إطلاق النار بلا إعمار، بلا رقابة دولية، ضعف الوسطاء، وتردد حماس. لذلك بدأت إسرائيل فعلياً بتحديث خططها العملياتية لنزع سلاح غزة بنفسها، مستندة إلى: رفض حماس التخلي عن السلاح كذريعة لفرض خطة قسرية، تفويض أمريكي غير معلن للعمل العسكري المباشر، إضافة إلى تعثر القوة الدولية ورفضها لأي دور تركي.

هكذا تبني إسرائيل قواعد المرحلة المقبلة: غزة بلا مقاومة، بلا إعمار، وبلا أفق سياسي، مجرد مساحة ميتة تُدار بالاغتيالات، الجوع، والخوف.

على الجانب الفلسطيني، تتحرك القاهرة لمحاولة كسر الجمود، وزيارة وفد حماس الأخيرة كانت محاولة للبحث عن مخارج. لكن كل هذه الجهود تصطدم بجدار صلب: إسرائيل لا تريد حلولاً أو ترتيبات أو تعهّدات، بل سياسة واحدة فقط، واضحة ومباشرة: استمرار السيطرة، تفكيك القوة الفلسطينية، وبقاء غزة بلا إعمار، بلا سلاح، وبلا سيادة.

 

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت