في قلب مدينة فرانكفورت ووسط حديقة عامة أقامت مجموعة من النشطاء خمسين خيمة منذ شهر أكتوبر الماضي للإعراب عن احتجاجهم على سياسات الرأسمالية والمصارف التي تؤدي إلى إفقار عامة الناس.
وقد اعتبر هؤلاء أن البنك المركزي الأوروبي رمز لتلك السياسات، حيث اعتبروه طرفا في الأزمة خصوصا أنه لعب دورا في فرض سياسة التقشف على الدول التي أثقلتها الديون، واليونان في مقدمتها.
لذلك فإنهم قرروا أن يقيموا مخيمهم بالقرب من مقره في المدينة الألمانية. ورفعوا في حركتهم شعار «لنحتل فرانكفورت»، على غرار ما فعله الناشطون الأمريكيون الذين أرادوا الاحتجاج على السياسات ذاتها فاختاروا موقعا قريبا من أهم مركز اقتصادي في الولايات المتحدة. رافعين شعار «لنحتل وول ستريت».
وليس معروفا ما إذا كان خروج النشطاء إلى الشارع والاعتصام في الأماكن العامة متأثرا بما شهده العالم العربي من احتجاجات مليونية أحيانا منذ بداية العام، انتقلت عدواها إلى دول أخرى كان بينها إسرائيل، إلا أن ما يهمنا في المشهد هو كيف تعاملت الشرطة والسلطة مع المخيم.
صحيح أن الشرطة أخلت أمثال تلك المخيمات في نيويورك وأوكلاند وبوسطن، وفي بعض المدن الأوروبية الأخرى، إلا أن الوضع اختلف تماما مع نشطاء حملة «نحتل فرانكفورت».
لكن ثمة إيضاح يجب أن أسجله قبل التفصيل في موضوع المخيم الألماني خلاصته أن أسلوب إخلاء الشرطة لمخيمات المعتصمين في المدن الأمريكية والأوروبية لا علاقة له بما حدث عندنا.
والفرق بين الحالتين أقرب ما يكون إلى الفرق بين المداعبة والحرب. ذلك أن أقسى ما واجهه المعتصمون هناك أن بعضهم تعرّض لليِّ الأذرع والرش بالمياه والحمل على أكتاف بعض رجال الشرطة. وإذا ألقيت نظرة على الصور التي نشرتها الصحف المصرية هذا الأسبوع ستعرف جيدا الفرق بين الحالتين.
التقرير الذي نشرته صحيفة نيويورك تايمز عن مخيم "لنحتل فرانكفورت" استدعى خلفية جديرة بالتنويه، وهي أن للحركات الاحتجاجية في أوروبا تاريخا طويلا، وأن الشرطة الألمانية لها خبرة جيدة معها، حيث اعتادت التعامل مع تلك الحركات السلمية أو العنفية.
وفي صدد المجموعة التي نحن بصددها سجل التقرير أنها كانت منضبطة ومنظمة بحيث لم تكن هناك حاجة لوجود الشرطة أصلا في المكان، ومن الملاحظات الأخرى التي سجلها ما يلي:
إن المخيم مقام منذ أكثر من شهرين، وقد صرح المتحدث باسم مكتب النظام العام المسؤول عن منح التصريحات اللازمة لإقامة التجمعات العامة بأنهم لا يمانعون في استمرار المظاهرة والاعتصام، ولا غضاضة في أن يحدث ذلك إذا كانوا قادرين على احتمال وطأة الشتاء.
أقام المعتصمون مطبخا لتقديم وجبات الطعام المتبرع به، كما أقاموا موقعا إلكترونيا وشبكة من العلاقات العامة، وخيمة لعقد الاجتماعات العامة.
< أقاموا أيضا منصة للاستعلامات مصنوعة من القطع البلاستيكية والألواح الخشبية، بما يمكن المارة من الحصول على الأوراق الدعائية أو تقديم التبرعات التي تساعد المعتصمين على إقامة حمامات متنقلة ومرافق ضرورية للمخيم.
< قام أحد المعتصمين ببناء تمثال من إطارات الدراجات المنحنية والدمى والعلب الفارغة ووضعه في أعلى المكان بالمتنزه، ولم تتعرض الشرطة له.
< يتوافد طلاب المدارس في المدينة على المكان لزيارة المخيم والتعرف على آراء المعتصمين، وقد لاحظ مراسل الجريدة أن مجموعات الطلاب تتحرك تحت قيادة «مرشد»، ينظم لهم لقاءات مع الشخصيات التي تمثل المجموعات المعتصمة. التي تتعدد آراؤها ولكنها تتفق حول هدف وضع حدود لقوة ونفوذ المؤسسات الرأسمالية والمصارف.
< تحدث المعتصمون عن الشرطة بودٍ ملحوظ، وقالوا إنهم لم يكونوا مصدر إزعاج لهم في أي وقت، وإنما عملوا دائما على حمايتهم. وقالوا إن الشرطة المحلية أقرب ما تكون إلى الحلفاء منها إلى الخصوم أو الأعداء.
< يحرص المحتجون على عدم عرقلة مرور المشاة كثيرا على الممرات المؤدية إلى المنتزه من موقف ترام قريب، ورغم أن المخيم على بُعد أمتار من مقر البنك المركزي الأوروبي الذي يستهدفه المحتجون، إلا أن أحدا لم يحاول عرقلة العمل به، حتى حين عقد مجلس إدارة البنك اجتماعه في بداية شهر ديسمبر الماضي، فإنهم لم يتخذوا موقفا منه.
وغاية ما هناك أن أحد المحتجين ارتدى قناعا ووقف بالقرب من مدخل البنك، حيث وزع أوراقا دعائية شرحت موقفهم من النظام الرأسمالي الذي دعاهم إلى الاحتجاج والاعتصام.
حين قرأت التقرير خطر لي أن أدعو إلى الانضمام لحملة «لنحتل فرانكفورت»، بعدما وجدت صعوبة في المطالبة باحتذاء نموذج شرطة المدينة، كما عجزت عن ضمان احتواء سلوك المتظاهرين.
لكن خشيت إذا انضممنا إليهم أن نفاجأ بأنهم تعلموا منا بدلا من أن نتعلم نحن منهم!
........................
صحيفة الشرق القطريه الأحد 7 صفر 1433 – 1 يناير 2012
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت