الدولة الإسلامية: إسلامية لا مدنية (الحلقة الثالثة)/مصطفى إنشاصي

بقلم: مصطفى إنشاصي

يبدو أن بعض الأصدقاء مازالوا يُغلبون البُعد السياسي في موقفهم من العنوان على البُعد التأصيلي والفكري للمصطلح، على الرغم من أني في الحلقة الماضية أوضحت أن لكل مصطلح في لغته الأم معناه ودلالته ورمزيته التي قد تختلف كثيراً عند ترجمته إلى اللغات الأخرى إن لم يتحرى المترجم الدقة في الترجمة ولا تُعطي كل المضامين الدالة على معناه في لغته الأصلية! إضافة إلى أمور أخرى؛ لذلك أرى أن أكمل الحديث عن الموضوع وأختم بحلقة أخيرة أحاول فيها مناقشة أراء الإخوة وأنه هناك فرق ما بين التأصيل للمصطلحات وما بين الحوارات السياسية، وأن التأصيل يجب ألا يُفسد للود قضية بين الأشقاء الذين وإن اختلفوا في الرأي حول المصطلح فلا يجب أن يختلفوا في الموقف السياسي حول القضايا التي تجمع وتوحد كل أبناء الوطن ضد العدو الخارجي!.


 


ابن خلدون من خلال دراسته لتاريخ الشعوب والأمم وصعود وسقوط الدول وضع قاعدة في مقدمته؛ تقول: أن المغلوب دائماً يقلد الغالب! وإذا ما عُدنا إلى تاريخ أمتنا بعد الإسلام نستطيع أن نقول أن هذه القاعدة تم خرقها وأن الذي حدث هو: أن الغالب هو الذي قلد المغلوب! وذلك في الحروب الصليبية حيث يعترف كتاب الغرب ومؤرخيه أن الصليبيين تعلموا وقلدوا المسلمين في كل شيء من الاعتقاد إلى الأخلاق إلى السلوك إلى السياسة إلى العلوم. وأن القبيلة الذهبية الماغولية التي اجتاحت بلاد الشام وعاثت فيها فساداً وهمجية انتهى بها الأمر إلى اعتناق الإسلام، ليس ذلك فحسب بل ونشرت الإسلام في مناطق في آسيا لم تصلها جيوش المسلمين! وإن سألنا أنفسنا كيف استطاع المسلمون في ذلك الوقت أن يكسروا هذه القاعدة في تاريخ الأمم  والشعوب المغلوبة وحتى بعد هزيمتهم الاحتلالات الغربية استطاعوا الانتصار والحصول على الاستقلال؟! الإجابة بسيطة جداً: أن المسلمون عندما غُلبوا في الحروب الصليبية غلبوا عسكرياً ولم يهزموا عقائدياً وفكرياً ونفسياً، وأن الروح القرآنية كانت ماتزال تتقد في نفوسهم وثقتهم بدينهم وصلاحيته جعلتهم يؤثرون ولا يتأثرون فكرياً، فالمعروف أن الإنسان الذي لا ينهزم نفسياً وفكرياً يبقَ يمتلك الإرادة والوعي الذي بهما يستطيع استعادة ما فقده من قوة مادية وتحقيق النصر، أما الذي يُهزم نفسياً وفكرياً يصبح تابع لعدوه ولا يمتلك الإرادة والوعي الكاملين في مواجهة مخططاته ضده! وذلك ما حدث بعد حملة نابليون على مصر فعلى الرغم من أنه تم طرد الفرنسيين وعادوا من حيث أتوا إلا أن المسلمون هزموا نفسياً وفكرياً أمام مظاهر القوة والحضارة الغربية، وأصبحوا كلما انفتحوا على الغرب تتعمق فيهم آثار الهزيمة النفسية والفكرية التي مازلنا نعاني منه إلى يومنا هذا!.


 


العلمانيون يخلطون بين الشريعة والقانون


وقد كان من الأخطاء التي وقع فيها أبناء وطننا من المتغربين ودعاة الديمقراطية والدولة المدنية (العلمانية) الذين هزموا نفسياً وفكرياً أمام الغرب أنهم نقلوا لنا عقائده ومناهجه وأنماط حياته وسلوكه ...إلخ لا علومه التي هي ملك لكل الشعوب والأمم، ونادوا بفصل الدين عن السياسة وجميع مناحي الحياة واختزاله في علاقة بين الإنسان وربه فقط على الطريقة الغربية، معتبرين أن الدين الإسلامي عقبة في وجه التطور والنهضة العلمية واللحاق بالحضارة الغربية! ولم يكن ذلك الموقف ناتج عن علم ومعرفة بطبيعة وخصائص كلا الدينين وتاريخهما العملي (الإسلام والنصرانية)، ولا ناتج عن دراسة علمية وعقلانية وموضوعية ومحايدة وغيرها من المصطلحات الغربية التي ينادون بها ويناقضونها في ممارستهم العلمية مع الإسلام، ولكن ناتج عن النقل الأعمى والتلقين الخاطئ الذي لعب فيه المستشرقون دوراً خطيراً في تشكيل تلك العقول وتهيئتها لاختراق الأمة وإضعافها أمام المخططات والأطماع الغربية في وطننا! لأن أي مراجعة هادئة لفهم الدين الإسلامي وتاريخه تكشف أن تلك الإسقاطات لتجربة الغرب على الإسلام خاطئة ويستحيل أن تنجح لا في تطوير الأمة –كما يعتقدون- ولا أن تمر دون إحداث أزمات سلبية في المجتمع الإسلامي لاستحالة قبولها بالكلية من جميع المسلمين؟! ذلك لأننا سبق وأن قلنا في حلقاتنا عن العلمانية أن الدين النصراني ليس دين شامل ومتكامل (منهج حياة) يجمع بين الدنيا والآخرة من خلال تنظيم حياة أتباعه في جميع شئونهم الدنيوية كالإسلام، وأنه لا يزيد عن سرد روايات على تناقض عن مولد وحياة السيد المسيح عليه السلام وبعض العبر والعظات عن السلام والمحبة، وبعض الصلوات والتراتيل التي تتلى في قداس الآحاد .. وأنه عندما تم القضاء السلطة الدينية الثيوقراطية التي حكمت باسم الله (الكنيسة ورجال الدين) عن حياة الناس في الغرب تحررت العقول من القيود التي كانت مفروضة عليها باسم الدين وتمنعها من الإبداع والانطلاق لدراسة الحياة والكون وتحقيق التقدم والنهضة العلمية، وأن الغربي لم يشعر بأي خلل في حياته نتيجة لذلك الفصل لأن الذي حدث هو الفصل بين الدين والسياسة وليس بين الدين والقانون كما يريدوا أن يفعلوا مع الإسلام! لأن الفصل بين الدين والقانون كان قائماً في الغرب بالفعل سواء أيام الوثنية أو حكم الكنيسة أو الحكم العلماني، فالذي يحكم الناس وينظم شئون حياتهم كما ينظم عمل السياسي في الغرب لم تكن العقائد الوثنية ولا الدين النصراني ولكن القانون الذي يضعه الإنسان وليس الله، لذلك لم يتغير شيء في الواقع الغربي عندما تم حصر الدين داخل جدران الكنيسة واستمر البشر يختارون القوانين التي تنظم حياتهم بأنفسهم ولكن دون تسلط من رجال الدين!.  


 


أما الدين الإسلامي فيشمل العقائد التي يؤمن بها المسلمون والأحكام الشرعية التي تنظم جميع جوانب حياتهم الشخصية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية ...إلخ، التي أنزلها الله سبحانه ليحكم بها الناس فيما بينهم، إضافة إلى العبادات (أركان الإسلام). ذلك كله هو الدين الإسلامي، فالدين الإسلامي إذن عقيدة وسياسة وعبادات. أضف إلى ذلك أن الإسلام لم يضع نصاً لكل صغيرة وكبيرة في حياتنا ولكنه وضع أحكاماً عامة وحد حدوداً بعينها ووضع لها عقوبات وذلك من أجل الحفاظ على المجتمع من الجريمة والتفكك والانحلال وتقطيع علاقاته وروابطه الاجتماعية التي تضعفه وتجعله فريسة لأعدائه، أن السلطة في الإسلام مقيده بتلك الحدود (القواعد التشريعية) وهي القواعد الآمرة أو الناهية التي لا يباح مخالفتها ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ (البقرة:229)، ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا﴾ (البقرة187)، والقواعد التشريعية (الحدود) تسمي في القانون الوضعي بالقواعد القانونية أو قواعد النظام العام. كما أن الإسلام يميز بين نوعين من القواعد القانونية، الحدود والتشريعات الثابتة التي لا تتغير لا زماناً ولا مكاناً والتي وضعها حق لله تعالى وحده، التي جمع علماء الشريعة غاياتها في خمسة غايات سموها "مقاصد الشريعة"، وسماها علماء العقيدة بـ"الكليات الخمس"، وهي: حفظ الدين وحفظ العقل وحفظ النفس وحفظ المال وحفظ العرض. والنوع الثاني هو: القواعد القانونية التي تخضع للتطور والتغير زماناً ومكاناً وجعل الدين الإسلامي سلطة وضعها للأمة وعلمائها وأهل الاختصاص فيها في كل زمان، والاجتهاد في ضوء المقاصد أو الكليات الخمس لاستنباط الأحكام التشريعية والقانونية التي يكون فيها مصلحة الفرد والجماعة والمجتمع وهذه محلها الفقه. وهي أيضاً نوعان: ما كان فيه فتوى شرعية أو حكم ثابت مستنداً إلى نص شرعي، والآخر ما يتخذه الحاكم من إجراءات سياسية لمواجهة ما يستجد من أحداث ليس فيها حكماً شرعياً أو فتوى أو يخالف ما هو ثابت من شرع الله وهي (السياسة الشرعية) تحقيقاً لمبدأ (وأمرهم شورى بينهم). وذلك ما فعله السلف حيث اجتهدوا في وضع قواعد وأصول شرعية بحسب زمانهم ليس فيها نص قرآني ولا حديث نبوي، مثل الاجتهاد والقياس والتعزير والاستحسان والاستصحاب والحاجات المرسلة وغيرها من القواعد والأصول التي نظمت حياة المجتمع المسلم في جميع مجالات حياته وشئونه اليومية.وعليه فإن الإسلام يقول بدينيه التشريع وليس السلطة كما في النظم الثيوقراطية، وبمدنيه السلطة وليس التشريع كما في النظم المدنية (العلمانية), ولكن العلمانيين يحاولون حصر الدين في العقيدة والعبادات فقط لبرروا مطلبهم بفصل الدين عن السياسة، على اعتبار أن السياسة وأمور الحكم لا تدخل ضمن الدين ولكنها من اختصاص الشعب.فالخلط الذي وقع فيه العلمانيين ليس بين الدين والسياسة ولكن بين الشريعة والقانون. فهم لا يريدوننا أن نخلط دين الله بالقانون ليبقَ الحكم في الأرض للبشر!.


 


لذلك وإن صحت مقولات مثل: لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين، والدين لله والوطن للجميع، في الغرب ليس بالضرورة أن تصح عندنا بل هي سببت أزمات، لأن علماني وطننا لا يعلمون أن الله تعالى غني عن كل شيء وليس بحاجة لدين ولكن الناس هم الذين في حاجة للدين ليهديهم إلى صلاح حالهم وحسن إدارة شئونهم، وأنه كما أن الدين لله تعالى بحكم أنه منزّل من لدنه سبحانه فإن الوطن أيضاً لله تعالى، فهو مالك الملك وكل الكون وما عليه ملك له سبحانه والإنسان مستخلف فيه وليس مالك له، بمعنى آخر كما أن الوطن للجميع فإن الدين في الإسلام أيضاً للجميع وليس علاقة بين الإنسان وربه كما كالدين النصراني، لأن الدين في الإسلام ليس مجرد شعائر تعبدية ولكنه أعم وأشمل ويعتبر أي عمل يقوم به المسلم ابتغاء لرضا الله تعالى هو عبادة، بدء من أن تلقى أخاك بوجه طلق (مبتسم) إلى إتيان الزوجة الذي هو في مفهوم الغرب غريزة وشهوة وحاجة بيولوجية في الإسلام هو عبادة! كما أن العبادات في الإسلام التي يرون فيها أنها علاقة بين الإنسان وربه على الطريقة الغربية يستحيل أن تكون كذلك، لأنها تتضمن أبعاد أخلاقية واجتماعية وإنسانية وما لم تُثمر أخلاقاً وسلوكاً وممارسة تعود على الآخرين في المجتمع بالنفع أو تكف أذاهم عنهم فلا فائدة منها وقد لا تُقبل عند الله تعالى، فالصلاة مثلاً فُرضت لتنهى المسلم عن الفحشاء والمنكر، ومَنْ لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له، والزكاة هي حق للفقراء في أموال الأغنياء (حق معلوم للسائل والمحروم)، وهي تزكية وطهارة للأغنياء وفيها تكافل وتعاون بين أفراد المجتمع (خذ من أموالهم صدقة تزكيهم وتطهرهم)، والصوم إحساس بالآخرين وشعور بمعاناتهم وفقرهم وحاجتهم، والحج مؤتمر عام يلتقي فيه المسلمون يتشاورون في أمور دنياهم إلى جانب أنه عبادة لله، وفيه منافع دنيوية ومكاسب مادية ...إلخ. فإن كانت العبادات في الإسلام يستحيل أن تكون على الطريقة الغربية والمناهج الغربية علاقة بين الإنسان وربه فما بالنا بالمعاملات (التشريعات) التي على الأمة استنباط الأحكام التي تصلح لكل زمان ومكان منها إلى يوم الدين؟!.


 


التاريخ: 1/1/2012

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت