الاقتراب والاغتراب في الزواج/د.ماهر خضير

بقلم: القاضي ماهر خضير

اعتادت كثير من العائلات ان تختار الزواج لابنائها من الاقارب وبنات العم وبنات الخال بل ان الاب يرغب ويفضل ان تتزوج ابنته من ابن عمها خيرا من شخص غريب معتمدا على المثل القائل (بنات العم اصبر والغرائب انجب) وان ابن العم سيحفظها اكثر من الغريب لانها لحمه ودمه هكذا يقولون . وهنا اردت ان اطرح هذا الموضوع من وجهة نظر شرعية فما هي وجهة نظر الشرع في زواج الاقارب؟ وهل يحث على الاقتراب او يدعو للاغتراب في الزواج؟


 


 لقد قضت حكمة الله جل وعلا ان تستديم هذه البشرية وتستمر عن طريق اتصال جنسين هما الذكر والانثى حتى يكونا ذرية تتوالد وتتناسل وتعبد الله وتعمل في عمارة الكون واستغلال ثرواته وتحقيق السعادة والرفاهية لعباده الى ان يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين وهذا كله مصداق لقوله تعالى (ياأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)      


                                                      


وكرم الله الانسان فلم يترك هذا الاتصال بدون نظام وضابط بل شرع له الزواج وسيلة الى ذلك وحث عليه ورتب له حقوقا وواجبات حتى يتحقق  من هذا الاتصال والاجتماع مودة ورحمة وتحصين واعفاف وليكون من ذلك ذرية طيبة قوية تجد في كنف الوالدين الرعاية الكاملة .ولذلك كان عقد الزواج فجعله الله عقدا بين ذكر وانثى لانشاء أسرة تقوم على المودة والرحمة وتحصينا وسكنا للنفس وطلبا للنسل وتعاونا في الحياة..قال الله تعالى( وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً )ووضع لهذا العقد أركانا وشروطا لابد أن تتوفر فيه وفي الزوجين كما ان الاسلام قد حث الرجل على الزواج والاسراع في ذلك ان كان قادرا ومستطيعا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (يامعشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فانه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فانه له وجاء) وسبب ذلك للتوالد وتكثير النسل واخراج الذرية الصالحة السليمة الكاملة لتعبد الله وتعمر الكون ،وبيًن للرجل كيفية اختيار الزوجة الصالحة وعلى اي اساس يكون ذلك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ألا أخبركم بخير مايكنز المرء ؟المرأة الصالحة اذا نظر اليها سرته واذا غاب عنها حفظته واذا أمرها أطاعته )ويقول أيضا صلى الله عليه وسلم (تنكح المرأة لأربع لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها فاظفر بذات الدين تربت يداك) اذن فقد جعل الرسول صلى الله عليه وسلم الاعتبار الأول في اختيار الزوجة هو الدين ،كما ارشد الرسول صلى الله عليه وسلم أولياء المخطوبة بأن يبحثوا عن الخاطب ذي الدين والخلق ليقوم بالواجب الأكمل في رعاية الأسرة وأداء الحقوق الزوجية. فالاسلام اذن بتشريعه السامي ونظامه الشامل قد وضع أمام كل من الخاطب والمخطوبة قواعد وأحكاما ان اهتدى الناس بهديها ومشوا على منهجها واختاروا الطريق السليم فيها كان الزواج في غاية التفاهم والمحبة والوفاق ..وكانت الأسرة المكونه من البنين والبنات في ذروة الايمان المكين والجسم السليم والخلق القويم والعقل الناضج والنفسية المطمئنة الصالحة.


 


ومن الأمور التي وجه الاسلام اليها في اختيار الزوجة هو الإغتراب والإقتراب في الزواج بمعنى ترك الزواج من بين ذوي القربى القريبة وتفضيل الزواج بالمرأة الأجنبية الغريبة عن الرجل على النساء ذوات النسب والقرابة وذلك محافظة على قوة النسل ونجابة الولد وضمانا لسلامة جسمه من الامراض السارية والعاهات الوراثية وحتى لايضوي النسل ويضعف فلا عجب أن نرى الرسول صلى الله عليه وسلم قد حذر من الزواج بذوات النسب والقرابة حتى لاينشأ الولد ضعيفا وتنحدر اليه عاهات أبويه وأمراض جدوده فقال (لاتنكحوا القرابة فان الولد يُخلقُ ضَاويا) اي نحيفا ضعيف الجسم بليد الذكاء ،وقال أيضا (اغتربوا ولا تضوَوا) وقد أثبت العلم اخيرا ان كثيرا من الزواج بالقريبات يتوالد منه ذرية ضعيفة هزيلة وان الزواج بالغريبة ينتج نسلا قويا وفي ذلك يقول سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه لقبيلة بني السائب وكانت هذه القبيلة تحرص دائما على الزواج بقريباتهم قال لهم عمر بن الخطاب(قد أضويتم – اي ضعفتم وصغرت اجسامكم وأصابكم الهزال – فانكحوا الغرائب)وكانت العرب قديما ترى أن الولد يجيء من القريبة ضعيفا لشدة الحياء بين القريبين لكنه يجيء على طبع قومه.


 


فهذه في الحقيقة هي المعايير المشروعة التي يقرها الاسلام للحفاظ على النسل –نسل الانسان المسلم- سليما قويا فانه يندر ان يتحد زوجان غريبان مثلا في صفة وراثية سيئة بل تكون صفاتهما الوراثية مختلفة عادة فيقابل نواحي الضعف في أحدهما نواح قوية في الزوج الآخر ،وقد ثبت أن الجنين يتألف من البويضة والحيوان المنوي فمن الأب جزء ومن الأم جزء حتى تتكون الخلية الواحدة التي ينشأ منها الجنين وهذا مايقوله الله تبارك وتعالى(إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً)وقال (يَخْرُج مِنْ بَيْن الصُّلْب وَالتَّرَائِب) لهذا كثيرا مايحمل الانسان صفات أمه أو صفات أبيه ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم (تخيروا لنطفكم فان النساء يلدن أشباه إخوانهن وأخواتهن ) وفي رواية أخرى (اطلبوا مواضع الأكفاء لنطفكم فان الرجل ربما أشبه أخواله) .ومن الواضح ان هذه الحكمة التي اقتضت الابتعاد عن الاسرة الغريبة اذا كان فيها نفس الصفات الوراثية الرديئة فليس من المعقول ان يتزوج الذي يشكو قصر القامة مثلا من أسرة في نفس الحالة .ولهذا روي عن ابن عدي في الكامل مرفوعا :( تزوجوا في الحجر الصالح فان العرق دساس) فهذه الأحاديث بمجموعها ترشد راغب الزواج الى ان يختار زوجات تناسلهن من نطفة انحدرت من نسل سليم وجدود أصحاء.


 


وخلاصة القول ان زواج الأقارب من غير المحرًمين تحريما مؤبدا أو مؤقتا جائز شرعا وغير ممنوع بمعنى أنه لو تقدم للمحكمة الشرعية رجل يرغب بالزواج من ابنة عمه أو ابنة خاله أو ابنة خالته فهذا جائز شرعا ولم يحرمه الاسلام ،والمحرمات من النساء معروفة وهذه الحرمة قد تكون مؤبدة بمعنى انه لايحل له الزواج بهذا النوع من النساء مطلقا في اي وقت من الاوقات كالمحرمات بسبب القرابة النسبية أو بسبب المصاهرة أو بسبب الرضاع ،وسبب التحريم في ذلك وصف ملازم لها لايزول .


 


وقد تكون الحرمة مؤقتة بمعنى أنه لايجوز له التزوج بها مادامت على صفة معينة قابلة للزوال منها ،فاذا زالت هذه الصفة عنها أصبحت حلالا  يجوز له الزواج بها،أما زواج بني العمومة والخؤولة مثلا فهذا جائز شرعا وقد تزوج علي بن ابي طالب من فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم وهي بنت عمومته فزواج الأقارب جائز شرعا لكن نكاح الغرائب أفضل لما له من قوة النسل وقوة الانجاب وكثرة التناسل التي حث عليه ورغب فيه الاسلام في قول الرسول صلى الله عليه وسلم (تزوجوا الولود الودود فاني مكاثر بكم الامم) وما لذلك من تغيير النسل شكلا ولونا وعقلا واتساع الروابط الانسانية بين افراد المجتمع فكما هو معروف من ان الزواج ايضا هو وسيلة من وسائل التضامن الاجتماعي والوحدة والروابط الاسرية بل والشعوب في العالم لذلك حث الاسلام على الاغتراب في الزواج وآية ذلك وصية النبي صلى الله عليه وسلم بأهل مصر معللا ذلك بقوله (ان لنا فيها نسبا وصهرا) ويعني بذلك جدتنا هاجر أم اسماعيل عليهما السلام وقديما قالوا : (بنات العم أصبر والغرائب أنجب) وقد روى عن عبد الرزاق بن معمر عن عبد الملك بن عمير أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ابنة عم لي ذات ميسم أي ذات حسن وجمال وهي عاقر أفأتزوجها ؟ فنهاه عنها مرتين أو ثلاثا .ثم قال: (لإمرأة سوداء ولود أحب الى منها أما علمت أني مكاثر بكم الأمم).وان ذلك لايعني أن تكون جميع بنات العم أو القريبات مثلا ذوات صفات وراثية سيئة وينتج عن ذلك ذرية غير سليمة فقد تكون الصفات الوراثية للعائلة الواحدة مثلا سليمة ولايوجد اي عاهات أو امراض وراثية على الاطلاق ومن هنا تأتي الذرية سليمة فهذا علي بن ابي طالب رضي الله عنه تزوج من ابنة عمه فاطمه بنت محمد صلى الله عليه وسلم ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم حذر من الزواج بذات القرابة القريبة حتى لايتوالد منه ذرية ضعيفة هزيلة وتنحدر اليه عاهات موجودة عند ابويه واجداده فقال الرسول صلى الله عليه وسلم ( تخيروا لنطفكم فان العرق دساس ) وهذه الحقيقه قررها رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أربعة عشر قرنا قبل ان يأتي العلم ليثبت ماقاله الدين .قال الله تعالى ( ياايها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والارحام ان الله كان عليكم رقيبا) صدق الله العظيم


 


الكاتب : الدكتور ماهر خضير


قاضي المحكمة العليا الشرعية


 

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت