الدولة الإسلامية: إجابة على بعض التساؤلات (الحلقة السادسة)/مصطفى إنشاصي

بقلم: مصطفى إنشاصي

على الرغم من أني ألقيت مجموع الحلقات محاضرة في أحد مراكز الدراسات الأحد الماضي علني أجد تساؤلات أو تعليقات يمكن أن تصحح لدي الفكرة أو تعززها إلا أني لاحظت أن معظم التعليقات تقليدية، وسأورد أهم تلك التعليقات بحسب أهميتها من وجهة نظري وأرد عليها وغالبها يؤكد أن الفكرة لم تصل إلى البعض، وإن كنت سأبدأ بالرد على ملاحظات بعض الأصدقاء من فلسطين التي سبق أن نوهت لبعضها:


لقاء القومي والإسلامي سياسياً لا يكفِ


أحد الأصدقاء اعترض من منطلق الحرص على استمرار اللقاء الذي حدث بين القوميين والإسلاميين بعد الانتفاضة الأولى في فلسطين وطرحنا لمصطلح "فلسطين القضية المركزية للأمة"، وفض الاشتباك الذي استمر عقود بين القومي والإسلامي وتحويل التناقض الداخلي بين الاتجاهين نحو العدو الخارجي! أخي هناك فرق بين اللقاء السياسي بين القوميين والإسلاميين الذي حرصنا عليه لا يقل عن حرصك عليه وبين الحديث والتأصيل للمصطلح أو المفهوم، قوة، ولا يجب أن يؤثر ذلك على اللقاء السياسي بين الأشقاء من أبناء الوطن إن كان اللقاء قائم على أرضية صلبة، كما يجب ألا يمنعنا حرصنا على ذلك اللقاء السياسي من توضيح موقفنا في القضايا الفكرية بوضوح خاصة وأن أشقائنا قبل أن تحدث انتخابات وقبل أن يفوز الإسلاميين فيها بدأ البعض منهم هجوماً شرساً على الإسلام، والبعض منهم اتخذ طروحات وممارسة المسميات الإسلامية وسيلته للهجوم على الإسلام نفسه والطعن في صلاحيته واعتباره الحكم به عودة للقرون الوسطى بكل ما فيها من استبداد وتخلف وجهل وتبعية ...إلخ،دون مراعاة لمشاعر الإسلاميين وهم يهاجمون الإسلام ويصفونه بعجز ليس فيه ولكن في فهمهم هم للإسلام لم يراعوا ذلك على الأقل من باب السياسة وضرورة الحرص للحفاظ على اللقاء السياسي الذي تحقق بعد عقود مريرة من الصراع بين القومي والإسلامي! فإن لم يراعوا هم ذلك لماذا يُطلب من المسلم أن يُقدم التنازل ويقبل بما يتعارض مع دينه حرصاً منه على لقاء سياسي حدث منذ حوالي عقدين ولم يثمر وحدة حقيقية ولا فض للتناقض الذي سرعان ما عاد اليوم مع الصراع على الحكم أشد مما كان سابقاً؟!.


يبدو عليك يا صديقي لا تقرأ ما يكتبه أشِقائنا في الوطن عن الإسلام والمسميات الإسلامية واتهامهم لها بالتخلف والجهل والتبعية للغرب، وأنهم يريدون العودة بنا إلى القرون الوسطى الأوروبية، ويريدوا أن يفرضوا عليها من منطلق الاستعلاء والاستخفاف بعقيدتها وخياراتها كل ما هو غربي وضد رغبتها، وإلا ماذا يعني أن يرفضوا وينكروا على الجماهير خيارها الإسلامي، وعلى الإسلاميين قبولهم الديمقراطية كأداة ووسيلة اختيار فقط لا منظومة قيم، ومحاولتهم فرض العلمانية والدولة المدنية والديمقراطية كمنظومة قيم على الطريقة الغربية على الأمة، ويتحدثون عن الاستقلال ويتهمون غيرهم بالتبعية للغرب؟! عندما أتأمل  في هذا الموقف والسلوك الذي يصدر عنهم دون مراعاة إلى أنهم بتلك الكتابات يزرعون وينشرون روح الفرقة والكراهية والبغضاء بين أبناء الوطن لا أجد أنهم متغربون فقط ولكني أجدهم أيضاً غرباء عن أمتهم ومجتمعهم، وأتصور أنهم يريدوا أن يكونوا هم وحدهم فقط الأوصياء على الأمة وتبعيتها المطلقة للغرب لأن الحريص على استقلاليتها يكون أحرص على وحدة الوطن وأهله، ويراعي مشاعر شركائه في الوطن ويحترم خيارات الأمة قطعاً لدابر الفتنة وتأجيج مشاعر العداء والصراع، وإن انتقد أو اعترض يكون موضوعي وبأسلوب يجمع ولا يفرق، خاصة وأن المتأمل فيهم وهم يتهمون شركائهم في الوطن بالتبعية للغرب -ودعك من التخلف الذي عليه الأمة وصنعته أفكارهم التي مازالوا يصرون عليها- يجدهم بدءً من فكرهم ومنهجهم في الحياة مروراً بممارستهم وعقليتهم النخبوية الاستعلائية في التعامل مع الأمة وخياراتها وشركائهم في الوطن انتهاء بإصرارهم على رفض الإسلام لصالح الأفكار الغربية يؤكد تغربهم وغربتهم! وإليك هذا الرابط لآخر مقالة قرأتها لكاتب قومي من تونس ...


http://www.facebook.com/reqs.php?fcode=9d34d7041&f=693791089#!/profile.php?id=1150923524
يكتب ذلك عن الإسلاميين في وقت اعتبر البعض أن حركة النهضة التونسية تحديداً والإخوان المسلمين عامة علمنوا الإسلام! ماذا يريد أولئك القوم بالضبط؟! وهذا رابط المقالة التي تتهم بعض الإسلاميين بعلمنة الإسلام:


 http://www.naqed.info/naqed/thought/1062-2011-12-03-20-01-15.html


لقد كان على كلا الطرفين القومي والإسلامي عقدين من الزمن الكف عن المؤتمرات واللقاءات السياسية التي لم يكن تزيد نتائجها عن الفرقعة الإعلامية بتصريحات وبيانات دعم المقاومة هنا أو هناك فقط، وإشباع البعض من كلا الطرفين غرور النجومية الفضائية لديه، وتوفير الأموال الطائلة التي أنفقت عليها بلا نتيجة تذكر وإنفاقها على خطوات عملية أكثر جدوى للأمة تتجاوز توحيد الخطاب السياسي وتركز على تطوير العلاقة بينهما، والعمل على تعميق الحوار بين التوجهين لتوحيد أو تقريب الآراء ووجهات النظر حول المنطلقات العقدية والفكرية لصياغة مشروع حضاري نهضوي للأمة يتكامل فيه القومي والإسلامي، والخروج من دائرة التنظير إلى دائرة الفعل وبناء المؤسسات الضرورية لإنجاح مشروعنا الحضاري الذي يوحد كل أبناء الوطن بغض النظر عن توجهاتهم الفكرية والأيديولوجية لمواجهة المشروع الغربي ضدهم، واستثمار الوقت في تجسيد دعائمه عملياً في حياة الأمة وواقعها، فذلك كان ومازال أنفع للأمة من اللقاء وتوحيد الخطاب السياسي الذي لم يُحصن الأمة من مخاطر ما يحدث اليوم!.


أهمية تحديد معاني دقيقة للمصطلحات


من هنا تأتي أهمية الاتفاق على معاني كثير من المصطلحات الغربية التي تُرجمت ترجمات خاطئة تتناسب مع بيئتها الغربية تاريخاً وحضارة وتتعارض في بعض أو كثير من معانيها ومدلولاتها مع بيئتنا العربية الإسلامية تاريخ وحضارة، تسببت ومازال في الاختلاق والصراع حولها بين أبناء الأمة في لحظات حاسمة من تاريخها كما هو حادث الآن، فبدل أن ننشغل في استثمار الحدث في استكمال التحرر من التبعية للغرب وإنجاز أهداف الأمة ننشغل في الصراع على نوع الدولة التي نريد إن كانت مدنية بمرجعية إسلامية أو مدنية بمرجعية غربية! وبدأ كلٌ يكيل الاتهام للآخر بالتبعية للغرب في الوقت الذي يُقر فيه العلمانيين والقوميين أن علاقة بعض الإسلاميين بالغرب وقبولهم بـ(الدولة المدنية ) وبالديمقراطية هو تكتيك للوصول إلى السلطة ثم ينقلبوا عليها (الديمقراطية)، في الوقت الذي هم فيه تبعيتهم للغرب تبعية منهج وفكر وسلوك فصلهم عن الأمة تاريخ وحضارة وواقع! وطوال حلقات الموضوع حاولت أن أوضح أن الفارق بين الدولة المدنية والدولة الإسلامية هو فارق بين تاريخين وثقافتين (حضارتين)، حرصاً مني على مستقبل الأمة والوطن من أن يتطور الاختلاف بين أبناء الوطن الواحد إلى الاقتتال الذي يفتح أبواب الوطن للغرب ليدخل من أوسعها ويهيمن قرارنا السياسي وعلى مقدراتنا المادية، ويعيد احتلاله لنا بأيدينا وبدل الحديث عن التبعية نعود للحديث عن التحرر من الاحتلال ...!


واسمحوا لي أن أعيد القول: أن لكل مصطلح في لغته الأم معناه، ودلالته، ورمزيته، ويكون محصله عوامل ثقافية ونفسيه وتاريخية وحضارية عند ذكره يستحضر السامع له كل تلك العوامل جملة واحدة، ومصطلح (الدولة المدنية) هو مصطلح نشأ في المجتمعات الغربية وكان ثمرة صراع طويل لقرون بين الكنيسة والمفكرين الغربيين وعند ذكره فهو يُذكر سامعه بكل المصائب والمآسي والمعاناة والدماء والمشانق والحرق والصراع و... و... التي مارستها الكنيسة ورجال الدين في أوروبا لكل مَنْ اعترض على حكمها أو اكتشف ما يخالف ما ورد في ما يسمونه (الكتاب المقدس)، في الوقت الذي كانت ممارسة الإسلام والدول الإسلامية عكس ذلك مع العلماء ورواد الفكر ... وقد استقر الحال في الغرب على خيار العلمانية التي هي جزء من الحياة الغربية طوال مراحلها وليست جديدة كما أوضحنا! والعلمانية سبق أن أوضحنا في حلقات نُشرت عنها: هي اللادينية وأنها مضادة للدين وتهدف إلى إقامة نظام حياة لا علاقة للدين فيه من قريب أو بعيد حسب ما أوردناه من تعاريف للعلمانية في دوائر المعارف والموسوعات والقواميس الغربية، وأنها ليست كما زعم مَنْ ترجموها ودعوا لها في وطننا طوال قرنين من الزمن أنها مشتقة من العلم أو العالم بمعنى العالمية! والعلمانية فصل الدين النصراني الذي لا يشكل منهج يمكن أن يحل مشاكلهم الناس في أي مجال من مجالات حياتهم بل هو عقدها في الغرب عن شئون حياتهم، كما أن فصل الدين عن السياسة وشئون الحياة في الغرب لا يترتب عليه ثواب أو عقاب في الآخرة لأن النصرانية ليست منهج حياة شامل للدين والدنيا والآخرة كما هو الإسلام، وهذا هو الفارق الجوهري بين النصرانية و الإسلام الذي يرفض أن يدركه أشقائنا في الوطن من العلمانيين! وإن كان ذلك لا يعني عدم الأخذ بما في العلمانية من مشتركات إنسانية تدخل ضمن الحكمة التي هي ضالة المؤمن وأنه أحق بها أنا وجدها!.


وقد اختار الغرب النهج الديمقراطي لإقامة مجتمعاته العلمانية وتطبيق أفكاره وآرائه البشرية (العلمانية) عن المنهج الأمثل من وجهة نظره لحكم الناس وتنظيم شئون حياتهم، ولإنشاء منظومته القيمية الخاصة به عن العدالة والحرية والحقوق الفردية والعامة وغيرها. فالديمقراطية في الغرب ليست أداة اختيار لمعرفة الرأي العام حول مسألة ما أو رأي الأغلبية فقط ولكنها منهج حياة تشرع وتسن القوانين التي تنظم حياة الناس، وتلك الشرائع والقوانين مرجعيتها ليست دينية ولكن عقل الإنسان وما تعارف عليه الناس (العلمانية)، وهكذا فالديمقراطية في الغرب أيديولوجيا وليست وسيلة أو أداة، هي التطبيق والترجمة العملية للعلمانية نهج حياة وممارسة، ولو لم يفهمها أشقائنا في الوطن من العلمانيين كذلك وجدت الأنظمة العلمانية في وطننا قرنت اسم جمهورياتها بالديمقراطية، وكذلك بعض الأحزاب أيضاً قرنت أسمائها بالديمقراطية! كما أنهم لو لم يفهموها كذلك لما وجدتهم يثورون هذه الثورة في هذا الوقت ويعترضون على أن يفهمها الإسلاميين الذين قبلوا بها أخيراً على أنها أداة أو وسيله لمعرفة الرأي العام ورأي الأكثرية حول مسألة ما لا تتعارض مع التشريع الإسلامي والغايات العامة للإسلام، وأنهم يرون فيها وسيلة لتحقيق أعلى درجات التطبيق لمبدأ الشورى الإسلامي في الحكم والسياسة! ويصرون على إقامة (دولة مدنية) على الطريقة الغربية تكون منفصلة انفصال تام عن الدين مرجعيتها الديمقراطية ليس كأداة ولكن كمنظومة قيم ومنهج حياة مطلق، وتلك هي الدولة العلمانية يا صديقي الذي فرق بين الدولة العلمانية والدولة المدنية، معتبراً العلمانيةفكر وإيديولوجيا والدولة المدنية أسلوب حياة، لأن أسلوب الحياة في الدولة المدنية أساسه العلمانية ...!.


وللحديث بقية ...


التاريخ: 22/1/2012


 


 

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت