جردة الحساب في اجتماعات شورى حماس
فضيلة النقد الذاتي وكاريزما خالد مشعل
أثارت المعلومات التي تم تسريبها من قبل البعض في الساحة الفلسطينية عن عزم رئيس المكتب السياسي لحركة حماس خالد مشعل الإحجام عن قبوله لترشيحه من قبل مجلس الشورى لرئاسة المكتب السياسي في الدورة القادمة، ردود فعل وقراءات مختلفة في ساحة العمل الوطني الفلسطيني.
فبعضها، ومع إشادته بدور خالد مشعل في مسار قيادة حركة حماس، وبأهمية وجوده على رأس السلم القيادي الأول، رأى بتلك الخطوة سابقة جيدة وجديدة وايجابية لما تمثله من معنى عميق في مسار الحركة الوطنية الفلسطينية التي اعتدنا في تاريخها المعاصر على زعامات مدمنة على مواقعها من (المهد إلى اللحد) كما يقولون باستثناء نسبي تمثّل في حالة الراحل الدكتور جورج حبش الأمين العام الأسبق للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين التي غادر فيها موقع الأمين العام (ولو متأخراً) عام 2000 بعد أربعة عقود من قيادته للأمانة العامة للجبهة الشعبية.
ورأى البعض الآخر بأنها لا تخرج عن حدود اللعبة الديمقراطية الداخلية في مجلس شورى حركة حماس الذي ينتخب بدوره كل أربع سنوات المكتب السياسي للحركة ورئيس المكتب، وهو القيادة الميدانية اليومية لها، والذي يتوقع له أن يُرشح وأن ينتخب رئيس المكتب السياسي في ابريل أو مايو المقبلين، فحركة حماس دأبت على إجراء انتخاباتها الداخلية بسرية ومن دون أي ضجة تحيط بها منطلقة من أن الصعود للمواقع القيادية هي بمثابة مهمة (تكليف وليست تشريف).
فيما ذهب آخرون للإشادة بالموقف إياه لخالد مشعل، والتحفظ في الوقت نفسه على رغبته بمغادرة المكتب السياسي، انطلاقاً من دوره الكاريزمي والوسطي في قيادة وتوجيه دفة حركة حماس، ومع الاحترام والتقدير لإيمانه الصادق بضرورة تجديد دماء القيادات الحركية في حماس من الأدنى إلى الأعلى.
فأين وجه الأمور من تلك المعلومات التي تواترت عبر بعض وسائل الإعلام، وماهي حقيقة ماجرى في اجتماعات مجلس شورى حركة حماس، والتي عقدت مؤخراً خارج الأراضي الفلسطينية المحتلة ...؟
التجربة الفلسطينية وحالة الجمود الستاتيكي
في البداية، نعيد القول إن حالة الجمود (الستاتيكي) للمواقع القيادية في عموم الفصائل والقوى الفلسطينية أمر ميّز على الدوام سيرتها الداخلية التنظيمية، فلم يحدث أن جرت انتخابات داخلية في أي من عموم الفصائل الفلسطينية دون (لعبة القوائم) التي تطورت نحو لعبة جديدة متقنة ومدروسة (محبوكة) عنوانها الانتخابات التمهيدية (البرايمرز)، ودون نتيجة محققة عنوانها فوز (عتاولة وأبوات) التنظيم والتجديد لهم مرة ثانية وثالثة .. الخ، حيث لارحيل لأحد منهم من موقعه في المكتب السياسي أو اللجنة المركزية أو الأمانة العامة، إلا بالوفاة الطبيعية أو الاستشهاد. وعلى سبيل المثال فقد حصل في إحدى
الفصائل الأساسية من فصائل منظمة التحرير الفلسطينية أن غادرها بلا رجعة اثنين من قياداتها التاريخية مجرد رسوبهم في انتخابات المؤتمر العام لعضوية المكتب السياسي منتصف تسعينيات القرن الماضي، وكذا عند معظم الفصائل الفلسطينية في تجربتها التي تلحفت فيها بغطاء ديمقراطي شكلي في محطات مختلفة من مسيرتها السياسية والتنظيمية. وحتى وان حصلت عملية التوسيع في صف القيادات فان تلك العملية احتفظت لـ (العتاولة والأبوات) بسلطة القرار، لتصبح عملية التوسيع والاضافات ليس أكثر من تعبئة فراغ، أو للتشدق بشعارات الديمقراطية (وغلاسنوست غروباتشوف)، والحديث يطول في هذا الميدان ولا مجال للاستطراد أكثر.
ومما لا شك فيه، فان منطق الأشياء، والتجربة المعاشة، وتوسع المعرفة، وارتقاء الوعي، وتضافره مع التجربة المريرة التي عاشها الشعب الفلسطيني، وتبوؤ الشباب لمواقع العمل الميداني القاعدي في ظل الانتفاضتين الأولى والثانية، والحراكات الجارية بين قطاعات الشباب في الشتات الفلسطيني، حتّم ضرورة كسر القواعد والمسلمات السابقة والصنميات التبريرية المستوردة أساساً من الحقبة السوفياتية (بالنسبة لفصائل اليسار) ومن الإرث الزعاماتي (لدى الفصائل القومية والوطنية)، ودفع الجميع للتفكير بطريقة ثانية وناقدة لمغادرة المنطق السابق، والإيمان بتدافع الأجيال، وبضرورة تجديد الدماء في عروق القوى والفصائل والأحزاب، وإحلال منطق التواصل وليس القطع بين القديم والجديد، ونقل الخبرات والمهارات واكتسابها على أرض العمل والميدان.
وفي هذا الصدد، يسجل لحركة حماس أنها وبتجربتها (بالرغم من كونها الأحدث في الساحة الفلسطينية) استفادت من أخطاء الآخرين، واستطاعت أن تفسح المجال لجيل الشباب باتجاه الارتقاء والصعود نحو المواقع المقررة في بناء السياسات والاستراتيجيات، وأنها عملت على تطعيم قياداتها وأطرها وكادراتها المختلفة ومن مختلف المراتب من خلال (التواصل وليس القطع) بين الجديد والقديم، بين ذاك الجيل المؤسس للحركة الإسلامية الاخوانية في الدخل الفلسطيني وبين أجيال الشباب التي نمت خلال العقود الثلاثة الأخيرة من عمر العمل الوطني الفلسطيني، ليصبح الجديد (مجدداً ومُعتّقاً) كتعتيق الفضة بالنحاس.
فضيلة النقد الذاتي وكاريزما مشعل
وفي العودة لاجتماعات مجلس شورى حركة حماس التي تمت مؤخراً خارج فلسطين، وفي بلد عربي شقيق، فان المعلومات المؤكدة تشير الى أن العديد من العناوين والقضايا كانت محطة في هذا الاجتماع المثير، الذي قدم فيه خالد مشعل جردة حساب للمرحلة الماضية، التي كانت بكل تأكيد مرحلة (غليان وفوران) لم يتوقف حتى اللحظة بخارها المتصاعد فلسطينياً وعربياً وإقليميا.
إن أهمية الإشارة إلى اجتماعات مجلس شورى حركة حماس الأخير، تنبع من أهميته كهيئة إرشادية توجيهية في فصيل بات يشكل القطب الآخر الموازي في ساحة العمل الفلسطيني، حيث يعتبر مجلس شورى حماس كهيئة شورية أساسية في رسم معالم وسياسات استراتيجيات الحركة، وقد عقد اجتماعه الموسع النوعي في ظل الظروف الصعبة لتنقلات قيادات الحركة ومجلس الشورى فيها، حيث تمثلت فيه قيادات التنظيم في قطاع غزة والضفة الغربية والقدس، والشتات، والجناح العسكري للحركة (كتائب الشهيد عز الدين القسام)، إضافة للسجون (الذين حضروا الاجتماع بكلماتهم ومداخلاتهم عبر رسائلهم المرسلة قبل وقت كاف للاجتماع).
الاجتماع الذي عقد برئاسة خالد مشعل، ناقش جدول أعمال متكامل، كان من بين بنوده أمرين اثنين : أولهما الوضع السياسي العام وتقديم جردة حساب لأداء حركة حماس طوال السنوات الماضية، وفيه رائحة الوقفة النقدية الشجاعة. وثانيهما التطرق للوضع الداخلي للحركة والوقوف أمام المطبات والعثرات وبعض الظواهر السلبية التي اعترت مسار الحركة خلال السنوات الأربع الماضية، وعلى أكثر من صعيد.
إن المهم في المعلومات التي أشيح عنها النقاب من مصادر فلسطينية مسؤولة ومقربة من حركة حماس، أن النقد الذاتي كان حاضراً على لسان خالد مشعل في اجتماعات مجلس الشورى لجهة تقييم الأداء، والوقوف أمام الخطاء التكتيكية التي طرأت على المسار العام لسياسات وأداء حركة حماس خلال السنوات الماضية. دون إهمال الانجازات التي تحققت في مرحلة صعبة، ونجاح الحركة في العبور نحو تثبيت حضورها على الأرض أكثر فأكثر، وصولاً إلى الإقرار العام العربي والدولي بمكانتها بالرغم من سيل الضغوط المسلطة من
اللجنة الرباعية الدولية على عموم الحالة الفلسطينية لتطويع حركة حماس وإدخالها نادي التسوية الأمريكية ــ الإسرائيلية.
وبالطبع، فقد لعبت شخصية خالد مشعل الوسطية والمعتدلة، وبالكاريزما التي يتمتع بها، ودائرة علاقاته الواسعة إسلاميا وعربياً ودولياً، دوراً مهماً في تمكين حركة حماس من عبور المطبات التي وضعت في طريقها، وحتى في احتواء الكثير من الإشكاليات ذات الطابع الوطني الفلسطيني العام، وذات الطابع الداخلي في حركة حماس والقلاقل التي اعتملت داخلها تجاه بعض الأمور في فترات معينة، ومنها ماله علاقة بالمصالحة الفلسطينية حيث دفع خالد مشعل باتجاه الوصول إليها إيمانا منه بأن المصالحة لابد منها، ولامفر منها لمواجهة المرحلة التالية من الحراك السياسي الكبير الذي يعتمل في المنطقة بأسرها، وبتداعياته المؤثرة على مسار الصراع مع دولة الاحتلال "الإسرائيلي".
فمسألة المصالحة واستحقاقاتها، وبلسمة جروح الانقسام، كانت ومازالت المهمة الأكبر أمام قيادة حركة حماس وخالد مشعل شخصياً، الذي لعب دوراً في توفير المناخ المناسب لشق طريق المصالحة التي تسير الآن في طريقها نحو الترجمة الكاملة لبنودها بالرغم من المسار الوئيد لها.
خالد مشعل والمصالحة كخيار لابد منه
وفي هذا السياق، ومن موقع المراقب والمتابع، أستطيع القول إن صوت خالد مشعل وحكمته، لعبا دوراً في كبح جماح بعض الشطحات التي برزت لدى البعض القليل من قيادات حركة حماس من أعضاء مجلس الشورى فيها أو من أعضاء المكتب السياسي، وكان من بينها على سبيل المثال رفضه لما حصل مع وفد حركة فتح عند معبر بيت حانون أثناء توجهه إلى قطاع غزة برئاسة عضو اللجنة المركزية لحركة فتح صخر بسيسو والوفد المرافق له. كما كان من بينها تعليماته المتتالية التي كان يعطيها لقيادات الحركة الميدانية في قطاع غزة بالتخفيف من ظهور الأعلام الخضراء لصالح رفع العلم الفلسطيني باعتباره علم الوحدة الوطنية.
إن المرحلة القادمة فلسطينياً وعربياً وإقليميا، مرحلة صعبة، تحمل في أحشائها مخاضات قد تكون ايجابية في جانب منها، وقد تكون أليمة في جانب آخر منها، على ضوء استفحال العدوان "الإسرائيلي" ونية حكومة نتانياهو على شن عدوان جديد على قطاع غزة، إضافة لاستمرار عمليات التهويد التي أكلت الخضر قبل اليابس في القدس ومحيطها.
وفي هذا السياق، تأتي المهام القاسية التي تنتظر حركة حماس باعتبارها قوة أساسية ومقررة في الوضع الفلسطيني إلى جانب حركة فتح، وهو مايتطلب وجود قيادات على مستوى المرحلة من حيث التجربة والكاريزما، والحنكة، ومن هذا المنطلق أؤكد وفق المعلومات الموثوقة جداً، بأن مجلس شورى حركة حماس رفض طلب خالد مشعل بمغادرة رئاسة المكتب السياسي في نهاية دورته الحالية في رئاسة المكتب، حيث تغيّر حركة حماس رئيس مكتبها السياسي وفق نظام الشورى، لا بناءاً على قرارات أفراد فيها، مهما كان منصب هذا الفرد ويتوقع على ضوء هذا الرفض إعادة طرح اسمه من قبل مجلس شورى الحركة كرئيس قادم للمكتب السياسي لدورة جديدة.
بقلم علي بدوان
صحيفة الوطن القطرية
الأربعاء 25/1/2012
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت