من مقابر الأحياء ،،،/ الأسير حسن سلامة

 


 


بسم الله الرحمن الرحيم
من مقابر الأحياء ،،،
من قبره رقم9 في عالم الأموات ،،،
من العالم المجهول بالنسبة إليكم ،،

الأحبة الكرام ،،،

يا من تسكنون في العالم الذي لا نعرفه، من زمن تلك الرسالة الأولى، التي وصلتكم من مقابرنا في عزلي في سجن أيالون –الرملة فاتحا لكم قلبي الذي حدثكم عن عالمنا عالم الأموات ،، عالم المعزولين في مقابرنا الخاصة التي فصلت لنعيش فيها الحرمان والنسيان ،، عالمنا الذي يتوسط بين الحياة والموت وإن كان للموت أقرب حتى إنه يحلو لبعضنا أن يطلق عليه عالم البرزخ ..
رغم ذلك وصلكم صوتنا يحدثكم عن أوضاعنا وأوجاعنا وآلامنا، لا لننال شفقة علينا ولكن لنتقوّى بكم، ونشعر من خلالكم أننا ما زلنا ننتمي لكم، ولو عبر رسالة هي كما أخبرتكم دليلا شاهدا على أننا ما زلنا أحياء ،، فإن وصلتكم رسالتي هذه، وهي الثانية من عالمنا ومن داخل مقابرنا، في عزل عسقلان، فهي دليلنا الثاني على أننا ما زلنا أحياء في عالم الأموات ،، في هذه الرسالة وعبر هذه الكلمات لن أحدثكم عن أشواقي لحياتكم التي لا نعرفها ،،
عن شمسكم هل مازالت تشرق كل صباح ولها غروب !! وهل ما يزال الشفق أحمر وقت الأصيل !! أتذكر أنني كنت أرقبها في الماضي البعيد وقت الغروب، وأقف أمام البحر وهي تختفي. وقتها كنا نقول ابتلعها البحر. فهل ما يزال البحر قادرا على ابتلاع الشمس ؟؟!!!
عن القمر، هل هو جميل أم أنكم تعيشون مثلنا بلا قمر ولا نجوم وبلا غيوم ؟!! لكننا ما زلنا نسمع صوت المطر فيعود بنا إلى تلك الأيام الجميلة يوم كنا نلعب وحباته تتساقط علينا .. كنا صغارا وكانت لنا أغانينا الخاصة للمطر !!!
صلاة الجمعة هل ما زالت تقام في عالمكم. فأنا لم أصلها منذ سنوات، لكنني ما زلت أتذكرها وأتذكر هذا اليوم الجميل، وما زلت أيضا أشتاق لصلاة الجماعة التي أصليها لوحدي، فهل أنال الأجر ؟؟!!
الأعياد .. هل زاد عددها عندكم !! كنت أتذكر في ذلك الزمان عيد الفطر وعيد الأضحى. فأنا منذ سنوات رغم وجودي، في عالمي الخاص الذي يبعد كثيرا عن عالمكم ويختلف عنه في كل شيء،
أحتفل بنفسي في هذه الأعياد، وأستيقظ باكرا بعدما أصلي الفجر، أجلس أمام باب قبري وأبدأ بالتكبير. فلا أسمع إلا صدى صوتي يؤنس وحدتي. وبعد الصلاة ينتهي عيدي، وأعود لحياتي، وأتناول حلويات أصنعها من الخبز والسكر !!
أشواقنا كثيرة وأحلامنا جميلة.. وعالمنا خصص ليقتل الحياة فينا، بل ويريدون فوق ذلك مسح ذاكرتنا وإلغاء ماضينا، حتى نصبح بلا حركة .. بلا أرض بلا وطن بلا فلسطين ،، أغبياء. هم أغبياء لأنهم يجهلون أننا معجونون بحب تراب هذه الأرض .. فلسطين.
أما ما سأحدثكم عنه، في هذه الرسالة، فهو شوق من نوع آخر لمعاناة من نوع خاص ،، فهل تصدقون أننا نشتاق أن ننام، ونعاني أننا لا ننام مثلكم، رغم أن عالمنا قائم على النوم الذي يوصل إلى الموت البطيء، ومع ذلك فهذه معاناتنا !!
هو قبر صغير يعيش كل منا في داخله معزولون متجاورون أو متقابلون، لهذا القبر باب مغلق تماما .. ولهذا الباب في أعلاه طاقة صغيرة، وهي مغلقة أيضا تفتح هذه الطاقة وتغلق من الخارج ،، ومع هذه الطاقة تكمن معاناة منعنا من النوم. فهي تفتح وتغلق طوال الوقت بيد السجان.. نهارا ليلا .. كم مرة لا أدري لكنها مرات كثيرة في الساعة الواحدة .
يراقبوننا من خلالها ويتحدثون إلينا عبرها.. ورغم صغرها عليها قضبان من الحديد ،، هذه الطاقة ولأنها من حديد، فمهما حاولت فتحها بهدوء يكون صوتها عاليا جدا، داخل قبر، فكيف وهي تفتح وتغلق بكل حقدهم وكرههم وعنصريتهم وساديتهم .
لكي تعلموا أصلا مقابرنا التي نعيش فيها، هي من ضمن مقابر يعيش فيها أسرى جنائيون يهود .. معظمهم موجودون على قضايا مخدرات .. وعملهم الوحيد الطرق على باب المقابر والصراخ والسب والشتم .. بشكل مستمر للحصول على ما يهدأهم من أدوية، لكننا مع الفترة نتعايش مع هذه الضجة ونعيشها كموسيقى، خاصة إن كانت من أسرى يعانون حتى ولو كانوا يهودا جنائيين.
بالرجوع إلى الطاقة التي تبدأ معاناتنا معها، في صباح اليوم حتى صباح اليوم الثاني، على مدار الساعة، وتزداد هذه المعاناة ليلا، والسجانون يتفنون في فتحها وإغلاقها، بكل قوتهم. ولا يكتفون بذلك بل يسلطون ضوء بطارياتهم الليلية على وجوهنا، حتى يتأكدوا أننا لم نزل في مقابرنا.
أذكر في الشتاء ومن شدة البرد، اختفيت داخل الغطاء وفي جولات السجان الليلية، وبعد طرقه الشديد .. أضاء القبر ببطاريته وأخذ يبحث عني، ولكي أرتاح أخرجت له قدمي من تحت الغطاء ووصلته الرسالة فتركني وغادر، ولكن بعد أن أغلق الطاقة بساديته المعهودة ،، فما رأيكم لو أجريت تجربة في عالمكم ؟؟!! وقتوا ساعة نومكم أو مذياعكم أو التلفاز الذي يخصكم أو جوالكم وقت خلودكم للنوم، ليسمعكم كل نصف ساعة موسيقى جميلة، وليكن ذلك في اليوم أو أكثر أو أقل وليس لسنوات.. أخبروني إن أردتم كيف كان نومكم وكيف كانت أحلامكم ؟؟!!
عيشوا معنا قليلا، وتصورا أن هذه حياتنا لسنوات .. فأحلامنا كنومنا مقطوعة ومتقطعة، ونأمل أن يكون وصلها قريبا.
بجانبي، أو بجانب قبري، قبر لسجين أمني مثلي، لكنه مريض نفسي يعرفني جيدا من سنوات العزل، يوم أن كان سليما، ينادي عليّ كثيرا وأنا أعلم أنه لا يعي شيئا، وأعلم أنني إذا أجبته سيكيل لي السباب والشتائم، لأنه مريض، ولكنني لا أستطيع إلا أن أجيبه عندما يناديني باسمي، حتى يسبني فقد يخفف عنه ذلك وحشته، ويخفف عني من ألمي، الذي أشعر به، لأنني لا أستطيع مساعدته ،، هو مقيد في قبره هكذا يعالجونه بتقييده.. يقتلونه كل يوم بعلاجهم له كمريض بعزله، في قبر يمرض فيه السجين.. فدعواتكم له فهو يحتاجكم.
مع كل هذه الأجواء لا زلت أشتاق للنوم، وقد أتمكن لأنني أشتاق لأن أحلم، وأريد أن أحلم، وحلمي بسيط ومتواضع أن أنام ساعة بشكل متواصل، غير متأكد من تحقيق حلمي، لكنني على ثقة بالله أن الفجر قادم ،،النصر قادم ،، التحرير قادم .
ولأنكم في عالمكم مشغولون حتى عن أنفسكم .. كان الله في عونكم، سأدعو لكم، لكن هل عندكم دقيقة للدعاء لنا !!؟؟؟

أخوكم المعزول في العالم المجهول بالنسبة لكم
من قبره رقم 9 في عالم الأموات


 


 


 

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت