الناس ما بين محسنٍ ومسيءٍ ومترددٍ بينهما ، فلنوطن أنفسنا ولنحسن مع المحسنين ، ولنجتنب الإساءة ، ولو أساء المسيئون ، على أن صاحب العزيمة الصادقة والنية الخالصة ، والطريقة المرضية ، هو من يقهر نفسه فيحملها على ما يكون فيه الشرفُ والإحسانُ ، فيطمح إلى صالح العمل وأكمله ، وصواب القول والرأي وأَجلَلِه ، ليكون من الناس في الخيار ، ولا يلتفت إلى ما فيه الإساءةُ والتقصيرُ ، حتى لا يُعَدَّ في الشرار ، لكنَّ ضعيف النفس من نصرها ، فحقق لها ما تتمنى في جُلِّ أو كلِّ الأحيان ، ويرحم الله من قال :
والنفسُ كالطفل إن تهمله شب على **** حُبِّ الرضاع ، وإن تفطمه ينفطم
وأما قويُّ النفس فمهما وَسْوَسَ المُوَسْوِسُون ، فلا يبلغ منه المرتابون إلا أذنيه ، ومهما شكك المشككون ، فقلبُه في حصنٍ حصين ، ودرعٍ متين ، ونَفْسُه بالله مطمئنةٌ ، وقدمه في سبيله سبحانه وتعالى ساعية ، ويده بالعطاء ابتغاء مرضاته عز وجل ممتدة ، وعينه لآلاء ربه ونِعَمِهِ ناظرة ، ولما كان الذكرُ والشكرُ لصاحبهما عصمة ، ولزيادة النعم ودوامها وسيلة ، فلسانه بالذكر والشكر لله وحده يلْهَج ، وهو من الله في حفظٍ وعنايةٍ ورعاية ، وكفايةٍ ووقاية ، ولله دَرُّ القائل :
وإذا العناية لاحظتك عيونها **** نم فالمخاوف كلهنَّ أمان .
أيها المسلمون :
* فلنحسن وإن أساء المسيئون ، لأننا نريد وجه الله في كل حال ، والله جل وعلا يقول في محكم تنزيله في سورة فصلت : {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) }.
قال الإمام السيوطي في تفسيره[ الدر المأثور في التأويل بالمأثور] :
( ..أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله { ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن } قال : أمر الله المؤمنين بالصبر عند الغضب ، والحلم عند الجهل ، والعفو عند الإِساءة ، فإذا فعلوا ذلك عصمهم الله من الشيطان ، وخضع لهم عدوهم { كأنه ولي حميم } .
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله{ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن} قال : القه بالسلام{ فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم } وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في شعب الإِيمان عن مجاهد رضي الله عنه في قوله { ادفع بالتي هي أحسن } قال : السلام ، إن تسلم عليه إذا لقيته .
وأخرج عبد بن حميد عن عطاء رضي الله عنه { ادفع بالتي هي أحسن } قال : السلام .
وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عن قتادة رضي الله عنه في قوله { كأنه ولي حميم } قال : ولي رقيب . وفي قوله { إلا ذو حظ عظيم } قال : الجنة .
وأخرج عبد بن حميد عن الحسن رضي الله عنه { وما يلقاها إلا الذين صبروا } قال : والله لا يصيبها صاحبها حتى يكظم غيظاً ، ويصفح عن بعض ما يكره .
وأخرج ابن المنذر عن أنس رضي الله عنه في قوله { وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم } قال : الرجل يشتمه أخوه فيقول إن كنت صادقاً يغفر الله لي ، وإن كنت كاذباً يغفر الله لك . والله أعلم ) أهـ .
أنظروا عباد الله كيف هي أخلاق السلف ونسوقها بأساليبها موثقة منمقة لا مرسلة دون خطام للتثبت منها والتحقق من روايتها .
إخوة الإيمان يا عباد الله :
* ولنحسن وإن أساء المسيئون ، روى الإمام مسلمٌ في الصحيح ، والإمام أحمد في المسند وابن حبان والبيهقي واللفظ لمسلمٍ قال :حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى وَمُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ وَاللَّفْظُ لِابْنِ الْمُثَنَّى قَالَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ سَمِعْتُ الْعَلَاءَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ : ( يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِي قَرَابَةً أَصِلُهُمْ وَيَقْطَعُونِي وَأُحْسِنُ إِلَيْهِمْ وَيُسِيئُونَ إِلَيَّ وَأَحْلُمُ عَنْهُمْ وَيَجْهَلُونَ عَلَيَّ ، فَقَالَ : " لَئِنْ كُنْتَ كَمَا قُلْتَ فَكَأَنَّمَا تُسِفُّهُمْ الْمَلَّ ، وَلَا يَزَالُ مَعَكَ مِنْ اللَّهِ ظَهِيرٌ عَلَيْهِمْ مَا دُمْتَ عَلَى ذَلِكَ " ) اهـ .
* فلنحسن وإن أساء المسيئون ، لأن هذا خلقُ محمدٍ صلى الله عليه وسلم ، وجاءت صفته في التوراة ، فقد روى الإمام الدارمي في سننه وهو في معجم الطبراني الكبير وشرح السنة للبغوي قال الدارمي:أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ الرَّبِيعِ حَدَّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِى صَالِحٍ قَالَ قَالَ كَعْبٌ :
( نَجِدُ مَكْتُوباً : مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لاَ فَظٌّ وَلاَ غَلِيظٌ ، وَلاَ صَخَّابٌ بِالأَسْوَاقِ ، وَلاَ يَجْزِى بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ ، وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَغْفِرُ ، وَأُمَّتُهُ الْحَمَّادُونَ ، يُكَبِّرُونَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى كُلِّ نَجْدٍ ، وَيَحْمَدُونَهُ فِى كُلِّ مَنْزِلَةٍ ، يَتَأَزَّرُونَ عَلَى أَنْصَافِهِمْ ، وَيَتَوَضَّئُونَ عَلَى أَطْرَافِهِمْ ، مُنَادِيهِمْ يُنَادِى فِى جَوِّ السَّمَاءِ ، صَفُّهُمْ فِى الْقِتَالِ وَصَفُّهُمْ فِى الصَّلاَةِ سَوَاءٌ ، لَهُمْ بِاللَّيْلِ دَوِىٌّ كَدَوِىِّ النَّحْلِ ، مَوْلِدُهُ بِمَكَّةَ ، وَمُهَاجِرُهُ بِطَيْبَةَ ، وَمُلْكُهُ بِالشَّامِ ) اهـ.
وقد أمره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ربُّه سبحانه وتعالى بذلك فأتمر ، قال جل جلاله في سورة المؤمنون : {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (96) }.
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله في ( تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان) : ( هذا من مكارم الأخلاق، التي أمر الله رسوله بها فقال: { ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ } أي: إذا أساء إليك أعداؤك، بالقول والفعل، فلا تقابلهم بالإساءة، مع أنه يجوز معاقبة المسيء بمثل إساءته، ولكن ادفع إساءتهم إليك بالإحسان منك إليهم، فإن ذلك فضل منك على المسيء، ومن مصالح ذلك، أنه تخف الإساءة عنك، في الحال، وفي المستقبل، وأنه أدعى لجلب المسيء إلى الحق، وأقرب إلى ندمه وأسفه، ورجوعه بالتوبة عما فعل، وليتصف العافي بصفة الإحسان، ويقهر بذلك عدوه الشيطان، وليستوجب الثواب من الرب، قال تعالى: { فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ } وقال تعالى: { ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا } أي ما يوفق لهذا الخلق الجميل { إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ }) اهـ.
أيها الناس ، يا عباد الله :
* وقد نهانا النبي أن يكون أحدنا إمعةً ، روى الإمام الترمذي في سننه قال : حَدَّثَنَا أَبُو هِشَامٍ الرِّفَاعِيُّ مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ عَنْ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُمَيْعٍ عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
" لَا تَكُونُوا إِمَّعَةً تَقُولُونَ : إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَحْسَنَّا ، وَإِنْ ظَلَمُوا ظَلَمْنَا ، وَلَكِنْ وَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَنْ تُحْسِنُوا ، وَإِنْ أَسَاءُوا فَلَا تَظْلِمُوا " .
و( الإمعةُ ) قال العلامة المباركفوري في تحفة الأحوذي : ( .. وَقَالَ صَاحِبُ الْفَائِقِ : هُوَ الَّذِي يُتَابِعُ كُلَّ نَاعِقٍ ، وَيَقُولُ لِكُلِّ أَحَدٍ أَنَا مَعَك ، لِأَنَّهُ لَا رَأْيَ لَهُ يَرْجِعُ إِلَيْهِ . وَمَعْنَاهُ : الْمُقَلِّدُ الَّذِي يَجْعَلُ دِينَهُ تَابِعًا لِدِينِ غَيْرِهِ بِلَا رُؤْيَةٍ وَلَا تَحْصِيلِ بُرْهَانٍ ، اِنْتَهَى كَلَامُهُ . قَالَ الْقَارِي بَعْدَ نَقْلِ هَذَا الْكَلَامِ عَنْ الْفَائِقِ مَا لَفْظُهُ : وَفِيهِ إِشْعَارٌ بِالنَّهْيِ عَنْ التَّقْلِيدِ الْمُجَرَّدِ حَتَّى فِي الْأَخْلَاقِ فَضْلًا عَنْ الِاعْتِقَادَاتِ وَالْعِبَادَاتِ . وَفِي الْقَامُوسِ : الْإِمَّعُ كَهِلَّعٍ وَهِلَّعَةٍ وَيُفْتَحَانِ الرَّجُلُ يُتَابِعُ كُلَّ وَاحِدٍ عَلَى رَأْيِهِ لَا يَثْبُتُ عَلَى شَيْءٍ ، وَمُتَّبِعُ النَّاسِ إِلَى الطَّعَامِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُدْعَى وَالْمُحْقِبُ النَّاسِ دِينَهُ وَالْمُتَرَدِّدُ فِي غَيْرِ صَنْعَةٍ ، وَمَنْ يَقُولُ أَنَا مَعَ النَّاسِ وَلَا يُقَالُ اِمْرَأَةٌ إِمَّعَةٌ ، أَوْ قَدْ يُقَالُ وَتَأَمَّعَ وَاسْتَأْمَعَ صَارَ إِمَّعَةً ، وَقِيلَ : هُوَ الرَّجُلُ الَّذِي يَكُونُ لِضَعْفِ رَأْيِهِ مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ . وَالْمُرَادُ هُنَا مَنْ يَكُونُ مَعَ مَا يُوَافِقُ هَوَاهُ وَيُلَائِمُ إِرْبَ نَفْسِهِ وَمَا يَتَمَنَّاهُ . ) اهـ .
إخوة الإسلام والإيمان : فلنحسن مهما أساء الناس ، ولنسر في طريقنا بالقسطاس ، ومن جار فلا يلومن إلا نفسه ، ولن يغني عنه غداً ديناره ولا درهمه ولا فَلسه ، ألا وصلوا وسلموا على خير الخليقة ، وأزكاها عند الله على الحقيقة ، فقد أمركم الله به اتباعاً لهديه فقال : {إن اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً}الأحزاب 56 .. اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد ، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين الأئمة المهديين - أبي بكر وعمر وعثمان وعلي – وعن آله المرضيين ،وسائر الصحابة أجمعين ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، وعنا معهم بمنك وكرمك وجودك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت