يخطئ من يعتقد أن وجهة إسرائيل إلى السلام، أو أنها تريد السلام مع الفلسطينيين والعرب أصلاً، فالمشروع الصهيوني التوسعي في المنطقة-وليس على فلسطين وحدها- لم يُستكمل بعد، فالمبدأ الأساسي في الصهيونية، أرض واستيطان، والسلام -بالنسبة للإسرائيليين- من شأنه وقف المشروع الصهيوني الذي ليس له حدود، والسلام يكشف التناقضات، ويؤدي إلى التصدع داخل المجتمع الإسرائيلي، أما العدوان والحروب فهي التي تبني وتوحد مجتمعها، وهي سياسة تتبعها كل حكومات إسرائيل المتعاقبة، فعند قبول "دافيد بن غوريون" بقرار التقسيم عام 1947، كان هناك معارضة صهيونية واسعة لهذا القبول، لكن "بن غوريون" طمأنهم بقوله:"لنأخذ ما هو ممكن، والبقية تأتي"، و"بن غوريون"-رئيس أول حكومة إسرائيلية-هو الذي وضع خطط تهجير أكبر عدد ممكن من الشعب الفلسطيني وتحويلهم إلى لاجئين في مختلف أنحاء المعمورة، و"بن غوريون" هو الذي أعد خطة عسكرية لاحتلال القدس الشرقية والضفة الغربية في العقد الأول من إقامة حكومته، إلا أن ما جرى عام 1967 كان فرصة "بن غوريون" لتنفيذ أحلامه.
قلنا بأن الأحلام الإسرائيلية بعيدة الأهداف، فقد أنيط بمركز دراسات إسرائيلية إعداد خطة تعويضات لإسرائيل بمبلغ مائة مليار دولار من المملكة السعودية ودول الخليج، بمزاعم ممتلكات يهودية كانت في هذه البلاد، وهناك خطط صهيونية لاعتبار النفط في الشرق الأوسط ملك لجميع دول المنطقة، كما أنها أعدت مكتباً خاصاً لإحصاء أملاك وأموال اليهود الذين كانوا يعيشون في الدول العربية والمطالبة بتعويضهم، مع أن الوكالة اليهودية هي التي عملت على تهجيرهم إلى إسرائيل وما زالت، باعتراف مذكرات قيادات الحركة الصهيونية، فتجسيد المخططات الصهيونية متواصلة، والتوجه اليميني-الاستيطاني متواصل، ومؤتمر حزب الليكود قبل أيام أعاد انتخاب "بنيامين نتنياهو" المتطرف والمتعجرف زعيماً لهذا الحزب، أما منافسه موشيه فيغلن الأشد تطرفاً، الذي يمثل المستوطنين في هذا الحزب، فينادي بقيادة يهودية، ودولة يهودية، وتربية يهودية، وعائلة يهودية حصل على 25% من الأصوات، وفي الواقع لا فرق بين الاثنين في التطرف.
إسرائيل تتقن الابتزاز السياسي والمالي في سعيها لزيادة ترسانتها العسكرية، من حيث التسلح، لتبقى الدولة المتفوقة عسكريا على جميع الدول العربية مجتمعة، وإسرائيل تتقن اللعبة الإعلامية بتوظيف قضية النووي الإيراني، للمزيد من ابتزاز الغرب، ولصرف النظر عن الاستيطان والاحتلال، وعن الصراع العربي-الإسرائيلي، واستحقاقات القضية الفلسطينية، فقد نجحت في قتل العملية السلمية، وفي إبعاد الأميركيين عن القيام بدورهم في إحلال السلام، وحيدت الأوروبيين، وهُمش العرب والفلسطينيون، وبعد كل هذا لماذا عليها العمل على القبول بإقامة الدولة الفلسطينية، وإنهاء الاحتلال؟
نتنياهو يعتقد أن الوضع العربي والدولي السائد سيبقى إلى صالحه إلى الأبد، فإن ما ينقص إسرائيل زعامة عميقة الرؤيا نحو المستقبل، لها قدرة على اتخاذ قرارات مصيرية من أجل السلام، فإسرائيل تعاني من أزمة زعامة، لكن الظروف القائمة لا تدفع نتنياهو لاتخاذ مواقف أخرى، بل يعمل على تعزيز مواقفه.
اللجنة الرباعية المشكلة من الولايات المتحدة، والمجموعة الأوروبية، وروسيا، والأمم المتحدة، والخاضعة للتأثير الأميركي، طلبت من الجانبين-الفلسطيني والإسرائيلي- تقديم موقفيهما التفصيلي خطياً، بشأن الحدود والترتيبات الأمنية، وبينما استجاب الفلسطينيون لهذا الطلب، وقدموا موقفهم، لم تقدم إسرائيل موقفها، وما زالت تماطل وتعمل على شراء الوقت، حيث تهرب "نتنياهو" قائلاً بأنه سيقدم موقف إسرائيل حتى نهاية آذار القادم، وهو بهذا يستخف بهذه اللجنة وحقيقة تهربه تعود لسببين: إما أن يسقط وتسقط حكومته إذا أعلن عن موقف إسرائيلي معتدل، أو أن يسقط القناع عن وجهه، فمواقفه معروفة إضافة للحفاظ على بقائه بالحكم، ففي اجتماعات عمان، وقعت مجادلة عنيفة واتهامات متبادلة بين رئيس الوفد الفلسطيني د. "صائب عريقات"، ورئيس الوفد الإسرائيلي المحامي "اسحاق مولخو"، والأخير أحضر معه رئيس دائرة التخطيط الإستراتيجي في الجيش العميد "أساف اوريون"، كي يعرض موقف إسرائيل حول الحدود والترتيبات الأمنية، لكن "عريقات" رفض عرضاً شفوياً للموقف الإسرائيلي، وطلب تقديم الموقف الإسرائيلي خطياً، فالفلسطينيون اكتووا من المواقف الإسرائيلية الشفوية التي كانت إسرائيل تتنصل منها بسهولة، حتى أن "مولخو" تحدث في اجتماعات عمان شفهياً، وبالعموميات، وبالنسب المئوية لمبادلة الأراضي المحتملة، دون إبراز خرائط، مؤكداً على أن أغلبية المستوطنين سيبقون في الضفة الغربية في حدود ستصبح إسرائيلية، بينما تكون أغلبية الفلسطينيين في الضفة ضمن حدود الدولة الفلسطينية، مع تأجيله لقضيتي الحدود والأمن، من جلسة إلى أخرى، للتملص من العملية السلمية، وهذا يعني في أحسن الأحوال، استيلاء إسرائيل على نصف مساحة الضفة الغربية، معتبرين الجدار العنصري-الذي أقيم بذرائع أمنية- حدودهم الدائمة، مع تواجد إسرائيل في غور الأردن، بعد أن نفى "نتنياهو" ما نشرته جريدة "معاريف 30-1-2012"، بأن إسرائيل تنازلت عن طلبها بتأكيده أنه لا يعتزم التنازل عن التواجد الإسرائيلي في الأغوار، لكنه لم يوضح نوع هذا التواجد، فهذه الطروحات الإسرائيلية لا تسمح بإقامة دولة فلسطينية، ولا تؤدي إلى تحقيق السلام، حتى أن جريدة "هآرتس 29-1-2012"، اتهمت "نتنياهو"، بإفشال محادثات عمان، وما قدمه "مولخو" لقضيتي الأمن والحدود، ما هي إلا محاولات مكشوفة لاتهام الجانب الفلسطيني بإفشال المحادثات، والهدف الإسرائيلي هو إبقاء حالة الجمود، فـ "نتنياهو" الذي أعلن عن ما يسمى بحل الدولتين، يعلن شهادة وفاة هذا الحل.
"إسرائيل على أعتاب أزمة دولية ستضعها أمام امتحان صعب للغاية"، هذا ما جاء في دراسة صادرة عن معهد السياسة والإستراتيجيات في إسرائيل، وأن هذه الأزمة، ستضرب جذورها في المنطقة، وستضع إسرائيل في مهب الريح، فرئيس مؤتمر هرتسيليا متعدد المجالات –الجنرال المتقاعد "داني روتشيلد"- اعترف بأن هذه التوقعات، تعتمد على الأحداث التي وقعت في المنطقة والعالم، مؤكداً أن إسرائيل ستكون هذا العام في مهب الريح، فإن جميع التقديرات والدراسات ترتبط ببعضها، وتؤثر على بعضها، وأن العوامل الاقتصادية والاجتماعية والإقليمية مرتبطة جميعها ببعضها البعض- وفقاً لروتشيلد- وأنه في مؤتمر هرتسيليا الحالي، يجري الحديث عن شرق أوسط آخر، لا عن شرق أوسط جديد، كما كانوا يتوقعون، وهذا يعني بأن المنطقة، والصراع العربي-الإسرائيلي، أمام منعطف جديد، ومع أن مؤشراته لن تكون في مصلحة إسرائيل، إلا أن القيادة الإسرائيلية مازالت تركب رأسها، وتزيد من تعنتها وصلفها، متجاهلة ما يدور حولها من مخاطر، فمن قال أن إسرائيل معنية بالسلام؟.
التاريخ : 8/2/2012
المقال الأسبوعي
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت