الحضارة: الغرب ورحلة البحث الخاطئ عن الذات (الحلقة الثانية)/مصطفى إنشاصي

بقلم: مصطفى إنشاصي

 إن الغرب منذ نهاية العصور الوسطى الأوروبية* حيث بدأ رحلة البحث عن الذات من جديد جنباً إلى جنب مع رحلة الخروج من عزلته والانعتاق من قيود الجهل والتخلف التي كان يعيشها بالانفتاح على علوم المسلمين التي كانت في ذلك الوقت متقدمة جداً بالنسبة لذلك العصر، وكانت أعظم من أن يستوعب العقل الغربي المتعصب الجاهل الخارج من رحم هزيمته في الحروب الصليبية وحقده على الإسلام، والمصدوم بمدى التقدم العلمي والرقي الحضاري الذي كان عليه المسلمون، أن من الإنصاف والعدل أن يعترف الإنسان لأهل الفضل بفضلهم، مما أثار في نفسه وشعوره ولا شعوره مزيداً من الحقد على الإسلام وأمته والخوف من عودة الروح الإسلامية إليها من جديد، فبدأ يخوض أشرس معاركه لتدمير هذه الأمة وجميع مقومات وجودها وقوتها. وكانت الرحلة الثالثة التي صاحبت خروجه من ظلمة العصور الوسطى رحلة انطلاقته الجغرافية إلى العالم المجهول بالنسبة له حتى ذلك التاريخ المعلوم للمسلمين، وهي ما أطلق عليها (الكشوف الجغرافية)*.


 


وقد كان من أشد سلبيات الغرب الصليبي في رحلة بحثه عن الذات من جديد أن انتكس انتكاسة أسوأ من سابقتها، وارتد إلى جاهلية وتخلف عقائدي أشد ظلمة مما كان عليه في العصور الوسطى الأوروبية، حيث أعاد اكتشاف ذاته وبناها على أسس من عقيدة وفلسفة وقانون ونظام العصور الإغريقية-الرومانية، وأخذ عنها ما أصبح يُميز هويته الثقافية "الحضارية" عن بقية شعوب العالم، بدء من (المعجزة الإغريقية) عقدة العنصرية والتفوق والتعصب للجنس الأبيض، تلك المعجزة التي كانت ردة فعل لصدمة وشعور الإغريق بالنقص عندما احتكوا وانفتحوا على حضارات الشرق المتقدم جداً عنهم في تلك الأزمان، مروراً بالمبدأ الأخلاقي ونزعة الذوق والجمال الإغريقية الرومانية؛ ما كان له تأثيره الواضح في إكساب الحضارة الغربية الحديثة خصائص أساسية ميزتها عن كل حضارة أخرى، مثل: النزعة لاحتلال الآخر، والإباحية، والعبثية، وتفكيك الروابط الاجتماعية وانحلالها، والاهتمام بالمرأة وتعرية جسدها، والشك في جميع الثوابت الدينية الغيبية، والأخذ بمبدأ (البقاء للأصلح) والأصلح في فلسفتهم هو الأقوى... إلخ، مما تمتاز به الثقافة "الحضارة" الغربية ويُعتبر من خصائصها المُمَيِزة.


 


لقد شكل الغرب الصليبي نظرته لنفسه وللآخر وصقل علومه ومعارفه وأعاد بناء ذاته وحدد معالم هويته الخاصة على أُسس الفلسفة الإغريقية وفهمه لمدلول كلمة Culture وجذرها اللغوي اللاتيني الذي يعني زراعة الأرض والغرس، ما جعل الغربي ينظر إلى نفسه وذاته على أنه هو الإنسان المتحضر الوحيد، وهو مركز ومحور جميع الأحداث على الكرة الأرضية منذ نزول آدم إلى الأرض، وأن دوره هو نقل الحضارة والمدنية للشعوب الأُخرى وتعليمها وتطويرها وإخراجها من تخلفها وغرس قيمه -التي هي القيم الإنسانية- في كل مكان يصل إليه.


 


أضف إلى ذلك؛ أن موقف الكنيسة والباباوات السلبي والعدائي من العلم والعلماء أدى إلى ردة فعل سلبية عند كثير من علماء الغرب أثناء صراعهم للتحرر من ظلم وهيمنة وتعسف الكنيسة، ذلك الصراع لعب دوراً مهماً في تأسيس خاطئ للبناء العلمي والمعرفي الغربي في معظم فروع العلم وخاصة الاجتماعية والإنسانية، أساسه العداء للدين وإنكار جميع أفكاره وتصوراته عن الإنسان والحياة والكون، ليس ذلك فحسب؛ بل ومحاولة تشويه دور الدين والعقيدة الدينية في حياة المجتمعات منذ فجر التاريخ، لذلك أنكروا وجود الله، وأنكروا أن الدين والتدين في الإنسان شيء فطري متأصل في نفسه ونابع من داخله، وحاولوا تفسير الدين كظاهرة من ظواهر المجتمعات والحياة البشرية، وردوها إلى أسباب كثيرة ومتناقضة في بعض الحالات، فبعضهم رأى أن الإنسان عندما كان يعجز عن السيطرة أو قهر ظاهرة ما كان يعبدها، وآخر رأي أن الإنسان عندما كان يخاف من شيء كان يعبده، وثالث اعتبرها من المظاهر التي صاحبت الاستقرار البشري وبناء الحضارات وما صاحبها من ترف ورفاه ... إلى غير ذلك من التفسيرات التي لا علاقة لها بفهم وإدراك حقيقة فطرة ونفسية الإنسان الحقيقية .. إلى أن وصل الأمر بفيلسوف ملحد ساقط أخلاقياً مثل نيتشه أن لا يجد غضاضة أو مخالفة أو إنكار لحقيقة فطرية عندما أعلن عن (موت الله)، أي انتصار الإنسان في صراعه مع الإله على الإله نفسه، وآخر أنكر الأديان كلها، وثالث اعتبر الدين عنوان مراحل التخلف والجهل والبدائية في حياة المجتمعات، وأخيراً أعلن العقلانيين أنه لا حاجة للإنسان لإله فالإنسان في عصر التكنولوجيا والأقمار الصناعية وسفن الفضاء قادر على أن يصنع الإله الذي يريد!.


 


أما النظريات ذات العلاقة بأصل الكون والإنسان؛ فهناك من اعتبر أن الكون وجد صدفة وأن كل القوانين التي تحكم حركته وليدة تلك الصدفة، وهناك من قرر أن أصل الإنسان كان قرد، وأنه تطور مثل أي شيء تطور في هذا الكون إلى أن أخذ الشكل الذي هو عليه الآن، وكان الأساس في تطوره هو حاجته، وذلك منذ عشرات الملايين من السنين، وطبعاً لعجزهم عن إثبات كيف تم ذلك التطور من قرد إلى إنسان؛ قالوا: أنه كان نتيجة طفرة حدثت له، ومنذ ملايين السنين إلى الآن لم تحدث له أي طفرات جديدة، لذلك توقف تطوره على هذا الحال، وبناء على ذلك اعتبر الإنسان حيوان، ولكنه حيوان اجتماعي، وناطق، وعاقل ومفكر..إلخ؟!!.


 


أما عن ميل الإنسان إلى العيش في جماعات، وتشكيل مجتمعات لها نظم وقوانين تحكم العلاقة بين أفرادها، فقد فسر علماء الغرب هذه الظاهرة البشرية بأنها ناشئة عن غريزة الإنسان لحب التجمع والحياة الجماعية أو رغبته بها، أو بسبب رغبة الإنسان في حماية نفسه من الوحوش وظروف الطبيعة، أو التعاون على  مواجهة مصاعب ومشاكل حياته اليومية .. وعلى ذكر الغريزة نعلم أن العلماء الغربيين يردون كل فعل أو سلوك عند الإنسان والحيوان إلى الغرائز، وفي البداية كانت الغرائز عند كل من الإنسان والحيوان لها نفس المفهوم وبعد ذلك تطورت الدراسات وأصبحت تميز بين غرائز الإنسان والحيوان.


 


أما عن تعلم الإنسان اللغة وطريقة التفاهم والتواصل بين أفراد المجتمع الواحد؛ فهي مثل غيرها من المسائل الخاصة بالشأن الإنساني تطورت عبر مراحل كثيرة، بدء من الأصوات والإشارة  والمحاكاة إلى أن أصبحت لها أُصول وقواعد كما هي اليوم. وهكذا فعلوا مع جميع فروع العلم الخاصة بالكون والإنسان التي قامت في الغرب على اجتهادات البشر في فهمها أو تفسيرها دون اهتداء بعقيدة دينية سماوية خالصة، أو قد يكون شابها بعض التحريف ولكن ظلت تحمل تصور سليم وصحيح عن أصل الكون والإنسان ووجودهما، مما كان سيوفر على أولئك العلماء الكثير من الجهد والوقت والتخبط في فهم تلك الحقائق الإلهية والفطرية في الإنسان، كما أنه كان سيوفر على البشرية كثير من الحروب المدمرة وكثير من المآسي والعذابات التي ولدتها النظريات والتصورات التي كانت نتيجة ذلك الجهل والتخبط البشري، بل كانت ستوفر على البشرية كل النكبات التي ألمت بها وستخرجها من حالة الضياع التي تتعمق يوماً بعد يوم بسبب نظريات من يسمون علماء ومفكرين.


 


إن معظم النظريات الاجتماعية والأنثروبولوجية والنفسية الخاصة بدراستنا هذه مرت بمراحل طويلة ومتقلبة في تاريخ الغرب الحديث وما يعرف بـ"قرون أو عصور الحداثة الأوروبية"، تلك الحداثة التي أخرجت لنا شكلاً ومضموناً غربياً ونموذجاً عالمياَ إلى حد كبير يختلف اختلافاً شبه تام عما كانت عليه أوروبا قبلها، ومن تلك النظريات ما اكتملت الرؤية الغربية عنه ومنها مازال لم تكتمل فيه الرؤية بعد. كما أن تلك النظريات بنيت على أسس مضطربة من اجتهادات بشر ليسوا أسوياء بالمفهوم الإنساني الصحيح، ولعبت فيها الأهواء والتجارب الشخصية والعامة والحالة النفسية والعقلية والخُلقية والصراعات الدموية التي اجتاحت الغرب الصليبي بعد ما يسمى "عصر النهضة الأوروبية" والحروب القومية الغربية... وغير ذلك، لعبت دوراً مهماً في رسم وتحديد توجهات وغايات العلوم الغربية الحديثة في الوقت الذي تُعتبر فيه تلك العلوم هي علوم الإنسانية جمعاء وليست علوم الغرب وحده.


 


وعليه فإن الحضارة الغربية لا تصلح أن تكون نموذج بشري يجعل جميع الشعوب تتخلى عن موروثها ونماذجها وتتبناها كلية، كما أن وحدة الأصل الإنساني لا تستلزم وحدة معارفه وعلومه ومناهجه وقيمه كما يرى المنظور الغربي للحضارة، لأن ذلك يجعل من علوم الحضارة الغالبة علوماً عالمية وكذلك مفاهيمها ومنهاجها، لأن العلوم والمعارف لا يولد بها الإنسان وإنما يكتسبها من خلال تفاعله مع البيئة والمجتمع والزمان والمكان وتراكم الخبرات وتوارثها.


 


وقد كان الخطأ الذي وقع فيه مَنْ نقل لنا تلك العلوم والتصورات الغربية عن كل شيء في هذا الكون أن مَنْ نقلوها -إلا ما رحم ربي- نقلوها كما هي، وأخذوها على أنها مسلمات علمية صحيحة دون أن ينظروا فيها ويمحصوها في ضوء تصوراتهم العقائدية ومفاهيمهم الدينية، وتصحيح ما وقع فيه أولئك الغربيين من أخطاء حول فهم دوافع التدين مثلاً، والنفس البشرية، والإنسان ككائن اجتماعي ناطق عاقل مفكر، وأصل الكون والحياة والإنسان.. وغيرها مما يدخل في مجال العلوم الاجتماعية والإنسانية، ومازال الكثير من أهل الاختصاص إلى يومنا هذا لم يعيدوا النظر في تلك العلوم ونتائج دراسات الغرب فيها.


 


لذلك فإن هناك كثير من المفاهيم والموضوعات ذات العلاقة بالعلوم الاجتماعية والإنسانية أصبحت بعد تلك العقود والقرون من تدريسها كمسلمات أو فرضيات علمية في حاجة إلى إعادة نظر فيها كلها أو في بعضها، وأننا في حاجة إلى إعادة صياغة منظومتنا في العلوم والمعارف الإنسانية من خلال رؤيتنا نحن إلى تلك المفاهيم والمصطلحات، وجوهر ومضمون تلك الموضوعات التي نشأت وترعرعت وتبلورت في بيئة اجتماعية وتاريخية تختلف إلى حد التناقض في بعض الأحيان مع بيئتنا وتاريخنا الاجتماعي، وأنه لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يستمر ذلك الوضع على ما هو عليه أكثر من ذلك، خاصة وأنه تبين لنا أن الغرب عولم رؤيته هو في مجالات وميادين العلوم الاجتماعية والإنسانية على الرغم من الخصوصية التي يجب أن تحتفظ وتتميز بها المجتمعات الإنسانية بعضها عن بعض، لاختلاف النشأة والتصور الاعتقادي التاريخي وغيرها من العوامل التي تلعب دوراً في تشكيلها وتشكيل موقفها من كثير من تلك المشتركات الإنسانية والعلمية، وأن الغرب مازال لم يغير موقفه السابق من عولمة وفرض رؤيته وتجربته الخاصة التي وصلت ذروتها في محاولاته فرض العولمة وأحادية السوق على العالم أجمع، لولا أنه اصطدم بمجموعة من الموانع والعوائق ذات العلاقة الوثيقة بالخصوصية الثقافية للمجتمعات غير الغربية، إضافة إلى رفض بعض الأنظمة التخلي عن كامل سيادتها الوطنية لصالح النظام العالمي الجديد، وما أثارته المغامرات العسكرية غير المحسوبة لراعي البقر الأمريكي (الكاو بوي) والعودة إلى عصور الاحتلالات الغربية المباشرة لأوطان الغير، وما صاحب تلك الاحتلالات من ردة فعل استثارت في أبناء تلك الأوطان الحمية الوطنية وروح المقاومة للغطرسة الغربية ومحاولات فرض الهيمنة الثقافية والاقتصادية والسياسية الغربية عليها وعلى العالم وفشل راعي البقر الأمريكي وحلفائه الغربيين في القضاء على تلك المقاومة، بل إنه مُني بنكسات عسكرية أمامها ما أدى إلى تراجع اندفاعه نحو فرض تلك العولمة على العالم وخاصة المستضعف منه.


_________________________________


* مصطلح (العصور الوسطى) مصطلح يدل على مرحلة زمنية في التاريخ الغربي النصراني كان طابعها الانغلاق والجهل والتخلف والجمود سيطر فيها رجال الدين على حياة المواطنين الغربيين في جميع نواحيها، وغلب عليها الفساد الإداري والمالي والأخلاقي في الكنيسة والفساد والتخلف الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، وتحالف فيها رجال الدين مع الأمراء الإقطاعيين ضد عامة الناس في بلادهم في بقية مناحي الحياة الغربية، والصراع والحروب الدامية بين الأمراء والإقطاعيين، كما تميزت بمحاربتها للعلم والعلماء ورفضها للتجديد وكثُرت فيها الخرافات والشعوذة؛ وانتهت بالصراعات والحروب الدينية النصرانية "المذهبية". وتبدأ هذه المرحلة من ميلاد السيد المسيح وتنتهي نحو 1500 ميلادية. ومن الخطأ إطلاقها كمرحلة تاريخية لجميع الأمم والشعوب لأنه في الوقت الذي كانت فيه أوروبا تعيش في تلك المرحلة من العزلة والجهل والتخلف كانت بلاد المسلمين تعيش ذروة المجد الإنساني، حضارياً وعلمياً وعلى جميع الصُعُد، فهي مرحلة تاريخية خاصة بأوروبا فقط. "الكاتب".


 


*  مصطلح (الكشوف الجغرافية) الشائع بين الكتاب مصطلح خاطئ، وهو قراءة غربية انتقائية لتاريخ العلم والمعرفة الإنسانية، له أبعاد فكرية ونفسية وحضارية غربية خبيثة، لأن ما يُعتبر كشوف جغرافية بالنسبة للغرب كان بالنسبة للعرب والمسلمين كشوف قديمة وجغرافية معلومة، فكل العالم الذي كان يكتشفه الغربي بمساعدة العلوم والعلماء والبحارة المسلمين، وكان يتعرف عليه الغرب لأول مرة كان مُكتشفاً ومعلوماً لدى العرب والمسلمين قبل أكثر من 1500 عام. "الكاتب".


 


 

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت