منذ سقوطها بيد قوات الغزو الأمريكي في التاسع من نيسان ابريل 2003، ظلت بغداد في ظل حكامها الجدد تحاول النأي بنفسها عن محيطها العربي، وقد كانت هناك دعوات عديدة في السر والعلن للابتعاد اكبر مسافة ممكنة عن الحضن العربي أو المحيط العربي وأمة العرب، وكانت مثل هذه الدعوات تتم تحت ذرائع ومبررات مختلفة.
لقد كان من أهم الداعمين لمثل هذه التوجهات، أطراف عراقية في مقدمتهم الطرف الكردي، بالإضافة إلى تلك التي أتت من الشرق، وهي التي اتخذت من إيران مركزا لتآمرها على وطنها، كما تلك التي دخلت الوطن "المحتل" على ظهر الدبابة الأمريكية.
كان الطرف الإيراني ولا زال يعتبر احد أكثر الأطراف الإقليمية استفادة من أفول نجم حزب البعث الحاكم بقيادة الراحل صدام حسين، وقد كان أيضا لاعبا ومحرضا رئيسا لمثل هذه الدعوات والتوجهات.
مما لا شك فيه ان في مقدمة هؤلاء كان الطرف الأمريكي الذي يعتبر بدون شك السبب الرئيس في المأساة العراقية برمتها، هذه المأساة التي نفذتها الولايات المتحدة – في أحيان كثيرة بأياد عربية- خدمة لأغراضها المعروفة المتعددة، وقبل ذلك خدمة لأجندات صهيونية صرفة، بحيث يصبح العراق بعيدا كل البعد عن حسابات المواجهة التكتيكية والاستراتيجة العربية مع دولة الكيان في المستقبل المتوسط والبعيد بما يمثله هذا البلد من ثقل إنساني واستراتيجي وعسكري واقتصادي وعلمي....الخ.
وقد ساعدت الأنظمة العربية لا بل وشجعت على مثل هذه التوجهات، من خلال اتباع سياسة غير مفهومة بعدم الاقتراب من الموضوع العراقي بعد سقوطه في اليد الأمريكية والإيرانية، مع العلم أن هذه الدول بقيادة المخلوع حسني مبارك، كانت من مهدت كل الأسباب التي يمكن أن تساعد على سقوط نظام صدام حسين والبعث الحاكم، وقد تم تنفيذ ذلك بتآمر في عز الظهيرة على العراق شعبا وأرضا ونظاما، وكانت تجليات هذا التآمر واضحة إذا ما عدنا إلى استذكار الطريقة الآثمة والغادرة، التي تم فيها فرض نظام عقوبات يعتبر من أكثر أنظمة العقوبات بعدا عن الإنسانية في التاريخ الإنساني ضد العراق، وتم تنفيذه عمليا بأيد تدعي العروبة والإسلام.
خلال الفترة الممتدة ما بين بداية الاحتلال وحتى ما قيل عن انسحاب القوات الأمريكية الغازية من العراق، كانت البلاد – ولا زالت- تنوء تحت ضربات وعمليات إجرامية كبرى، وظلت اليد الإيرانية تعمل بدون معوقات برغم وجود قوات – الشيطان الأكبر- وغاب الوجود العربي الرسمي بشكل شبه كامل، مما يدلل بلا مواربة ان اتفاقا من شكل ما تم بدون إعلان بين العدوين اللدودين على الأرض العراقية، وتم من خلاله تبادل للأدوار غير مفهوم، بحيث لم تحدث أية صدامات نوعية بين هذين العدوين كما هو عليه الحال في العلن، لا بل استطاعت إيران ان تدجن بعض أذرع المقاومة العراقية الشيعية من خلال طرق عدة تراوحت ما بين الترغيب والترهيب.
إضافة إلى ذلك، فان ما جرى منذ احتلال بغداد، يؤشر بلا ريب على ان أمة العربان التي اجتمعت في القاهرة بعد غزو الكويت- حيث من هذا المؤتمر بدأ العد التنازلي بشكل عملي لسقوط نظام الرئيس صدام حسين- لم تمتلك في أي من اللحظات التي سبقت أو تلت المؤتمر رؤية أو أجندات أو مخططات لا استراتيجيه ولا تكتيكية لما هو العمل بعد سقوط النظام في بغداد، بينما كانت الخطط في كل من طهران وواشنطن وغيرهما جاهزة لما سيكون عليه الحال بعد اسقاط النظام الحاكم في بغداد.
غياب التخطيط عند أمة العرب وما سيكون عليه الحال، أو ما هي الخطوات التالية لهذا الحدث أو ذاك، ليس مقتصرا على الموضوع العراقي، فالعربان والجامعة العربية بالتحديد لم يكن لديها أية خطط أو برامج لما سيكون عليه الحال فيما يتعلق بليبيا، وهي بالضرورة ليس لديها أية خطط فيما يتعلق بالموضوع السوري، امة تعيش على "توكلنا على الله"، علما ان ليس هكذا يكون التوكل على الله، وهنا ليس محل نقاش كيفية التوكل على الله، المقصود هنا انها امة تعيش على السليقة والفطرة هكذا بدون محاولات لاستشراف المستقبل، امة على رأسها مجموعة من الزعماء يمكن لمن يشاء ان يطل على الكيفية التي وصفهم بها مظفر النواب.
الجامعة العربية ودولها المتعددة والتي نأت بنفسها عن الشأن العراقي، تندفع الآن بشكل أيضا غير مفهوم يغيب عنه التخطيط والدراسة والحنكة، من اجل عقد مؤتمر القمة العربية القادم في العراق، هذا العراق الذي طالما احتضن العرب، ودافع عنهم وحمى حماهم، وأمن ظهورهم التي كانت ولا زالت عارية مكشوفة، وفي هذا السياق يمكن فقط التذكير بحرب تشرين 1973 حيث لولا الجيش العراقي لسقطت دمشق – كشربة ماء- كما انه لولا الجيش العراقي، لكانت دول الخليج محميات إيرانية بعد ان كانت محميات بريطانية، ناهيك عن دور الجيش العراقي في فلسطين ومصر أيضا في حرب عام 1973 وغير ذلك من مواقف العز والرجولة.
بحسب ما نذكر، فانه لم يعقد في عاصمة الرشيد سوى قمتين عربيتين، كانت الأولى في العام 1978 والثانية في أيار مايو 1990، أي ان القمة لم تعقد في هذا البلد منذ عقدين من الزمن، ولا نفهم الحكمة من عقدها الآن في بغداد، خاصة واننا نعلم ان بغداد لم تعد كما كانت، فهي لا زالت تحت حراب المحتلين، بغض النظر عما قيل من رحيل تلك القوات، فهي موجودة وما زالت، هذه القوات تتعرض يوميا لأشكال متعددة من المقاومة التي تستهدفها في أماكن تواجدها، ولا زالت المنطقة الخضراء بقيادة السفير الأمريكي الذي بدون شك هو من يتحكم في رقاب وحياة العراقيين وله الكلمة العليا وشؤونهم كافة.
من الواضح ان القيادة العراقية التي تولت مقاليد الحكم بعد الاحتلال، ليست مهتمة بموضوع الانتماء العربي للعراق، وقد كان هذا جليا في الدستور الذي تم وضعه بعد الاحتلال، وفي ظل الاحتلال، وبأيدي اتباع الاحتلال، ومن هنا فان مثل هذا الاندفاع باتجاه عقد مؤتمر القمة العربية في بغداد، إنما سيعضد موقف من يقود العراق اليوم وهو نوري المالكي المعروف بطائفيته البغيضة، وتبعيته الكاملة لمن ترعرع على أيديهم في طهران عندما كان في صفوف المعارضة، ومن هنا يظل السؤال قائما، ما هي الحكمة من عقد القمة في عاصمة لا زالت عمليا تحت الاحتلال الأمريكي المعلن والهيمنة الإيرانية لا بل الاحتلال الإيراني غير المعلن.
الجامعة العربية التي قادت الخطوات الأولى لإسقاط العراق في القبضة الهمجية الأمريكية، كانت قد اندفعت اندفاعة مماثلة عندما قبلت ان تكون الحكومة العراقية التي أتت بها الدبابة الأمريكية ممثلة للعراق والشعب العراقي في الجامعة العربية، الأمر الذي يتناقض مع ميثاقها الذي لا يقبل الدول التي لم تتحصل بعد على استقلالها كأعضاء في الجامعة العربية.
توجه الجامعة العربية عقد مؤتمرها القادم في بغداد، ينم كما يعتقد الكثير من المراقبين، عن قصر نظر آخر للقائمين على أمر الجامعة، حيث انه يشي بان الأمور في هذا البلد، عادت أفضل أو على الأقل كما كان عليه الوضع من قبل، وان الأمن والأمان يسيران كما ينبغي لهما ان يسيرا، وان هنالك رضا تاما عما آلت إليه الأوضاع هناك، في ظل قيادة ينخرها الفساد والطائفية، وامتهنت القتل والاعتقال والاغتيال على الهوية.
من جانب آخر، فان مكان انعقاد القمة يحدد بشكل كبير الموضوعات التي يمكن ان يتم إدراجها على جدول أعمال المؤتمر، وفي الظروف الحالية، فان هنالك مسألتين أساسيتين لا بد لأي تجمع عربي أو إقليمي ان يناقشهما، وهما تتعلقان بالموضوع السوري وبالبرنامج النووي الإيراني، هذا عدا القضايا الأخرى المتعلقة بالمشاكل الإيرانية مع دول الخليج، فهل سيسمح المكان أو القائمين على حكم العراق بمناقشة مثل هذه الأمور بالشكل والطريقة الصحيحة والمطلوبة، خاصة في ظل المعرفة الكاملة لموقف إيران والعراق من هذه القضايا، كما وفي ظل حالة الاصطفاف الموجودة في الساحة العربية فيما يتعلق بالموضوع السوري.
من المفهوم أن عقد اجتماع مؤتمر القمة العربية في بغداد، وهي التي ما زالت كما نعتقد ويعتقد غيرنا منقوصة الاستقلال والسيادة، ويقبع على رأسها مثل هذه القيادة التي تتحكم في مصير العراق، يأتي ضمن ضغوطات تمارس من قبل قوى عظمى على رأسها أميركا، وهي إشارة واضحة إلى حالة العجز التي تعيشها أنظمة التخلف العربية، التي تسمح بعجزها وغياب قدرتها على امتلاك إرادتها لانحراف بوصلتها، وهذا ما يدفع باتجاه سؤال يتم تداوله على سبيل التهكم أحيانا، وعلى سبيل الجد أحيانا أخرى، هل يمكن ان يتم عقد القمة العربية في قادم السنين بمدينة القدس وهي لا تزال تحت الاحتلال، خاصة وان التجارب القريبة والبعيدة أثبتت ان قادة العربان لا يمتلكون من أمرهم الكثير، وخاصة في ظل دعوة تمت من قطر على لسان الرئيس الفلسطيني، دعوة جاءت للعربان وغيرهم إلى زيارة القدس، دعوة باركها أمير قطر وعارضها الشيخ القرضاوي في لفتة أو فتوى لم تكن متوقعة.
8-3-2012
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت