تكمن اهمية المسجد الاقصى المبارك في أنه اولى القبلتين وثاني المسجدين وثالث الحرمين كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم عنه فلاتشد الرحال الا الى ثلاثة مساجد المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى ،كما انه المكان الذي أسري اليه من مكة وعرج منه الى السماء السابعة بعد أن صلى رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم بالأنبياء اماما ،وعلى هذا الاعتبار فهو داخل في عقيدة المسلمين فيكون التفريط فيه او التهاون به هو كالتفريط بالمسجد الحرام بمكة أو كالتفريط في المسجد النبوي بالمدينة لان هناك رباطا عقائديا بين هذه المساجد الثلاثة.
ومن هنا ارتبطت القدس بهذا المسجد وكان لها أهمية دينية وتاريخية على مر العصور مما حدا لليهود في العصر الحديث للعمل الدؤوب لتهويدها وطرد سكانها ومحاولة هدم المسجد الأقصى المبارك واقامة مايزعمون به من الهيكل الثالث،ومنذ احتلال المدينة المقدسة عام 67 صرح بن غوريون مؤسس دولة اسرائيل وقال" لامعنى لاسرائيل بدون القدس....ولامعنى للقدس بدون الهيكل" واقامة الهيكل يكون في المسجد الأقصى أي أن عينه كانت على هدم الاقصى واقامة الهيكل المزعوم مكانه ويدلل على ذلك مافعله كبير حاخامات اليهود في حينها ويدعى غورين حيث خاطب رئيس جيش الاحتلال الاسرائيلي ابراهام كيتس مصرحا له بجواز هدم الاقصى وعليه ان يقوم بذلك باسرع وقت.
ان المتتبع للانتهاكات الاسرائيلية للمسجد الاقصى المبارك يجد انها بدأت قبل 45عاما وأولها كان على يد "موشي ديان" قائد الجيش الاسرائيلي عام 67 عندما اقتحم المدينة المقدسة واحتلها آنذاك وعاث فيها فسادا وتخريبا ومرورا بحرق المسجد الأقصى عام69 وبعدها أخذوا في حفر الأنفاق حول المسجد الأقصى وتحت أساساته سرا الى أن تم تكوين شبكة أنفاق كاملة تحته وتحت قبة الصخرة المشرفة وفي مدينة القدس الشرقية لربطها بالقدس الغربية ثم بناء الحدائق التوراتية وكل ذلك يهدف الى تطبيق مقولة بن غوريون لا معنى لاسرائيل بدون القدس...ولامعنى للقدس بدون الهيكل.
ان مايجري حاليا في القدس هو تغيير ملامح القدس القديمة عبر بناء المراكز الدينية والحدائق التوراتية تحديدا في الجزء الجنوبي من المسجد الأقصى حيث القصور الأموية ومن الجهة الشرقية كذلك وحتى الهضبة المطلة على المسجد الأقصى مثل سلوان وباب العامود ،فالانتهاكات للقدس والمسجد الأقصى تسير بوتيرة متسارعة والهجمة خطيرة على سكان القدس الاصليين عبر محاربتهم بكل ثقلهم في لقمة عيشهم وتدمير اقتصادهم وهدم منازلهم لترك المدينة واحلال اليهود مكانهم كما ويبذلون جهودا مكثفة لطمس المعالم العربية والآثار التاريخية لضياع تاريخ العرب والمسلمين فيها فهناك مخططات طويلة الأمد من قبل الحكومات الاسرائيلية المتعاقبة لتهويد المدينة وطمس معالمها العربية والاسلامية وآثارها التاريخية ومن هنا يمكن ان نقول ان مدينة القدس اليوم دخلت في أعماق الخطر الذي وصل الى مراحل خطيرة ، حيث ان المتفحص للسياسة الاسرائيلية في طريقة واجراءات تهويد المدينة المقدسة على مر السنين الماضية يجد أن الاحتلال عمل على سحب مايزيد على 14000 الف بطاقة هوية مقدسية بين عامي (1967-2010 ) اي 20% من الاسر المقدسية قد هجرت عن بيوتها ناهيك عن سياسة الاغلاق التي تفرضها السلطات الاسرائيلية على المقدسيين وجدار الفصل العنصري الذي عزل مايقارب عن سبعين الف مقدسي عن مدينتهم باعتبار أنهم أصبحوا يسكنون خارج جدار الفصل بالاضافة الى هدم قرابة 3300 منزل من منازل السكان منذ عام 76 ومن بينها العديد من المواقع التاريخية والدينية كحي باب المغاربة التاريخي في البلدة القديمة في القدس كما ان استمرار تطبيق قانون املاك الغائبين الذي فرضته الحكومة الاسرائيلية عام 1950 واغتصاب بيوت الناس وضمها الى بلدية القدس بذريعة غياب أهلها .
ان قضية القدس والمسجد الاقصى هي ليست قضية فلسطين والفلسطينيين وحدهم وانما هي قضية الأمة كلها ونسأل الله أن تساهم المتغيرات في الدول العربية التي شهدت الثورات من قبل الشعوب أن تشكل حراكا لمرحلة جديدة تلقي بظلالها على مستقبل القدس والمسجد الاقصى ، وان أخطر مايقع بين الفلسطينيين أنفسهم حاليا هو الانقسام الفلسطيني الفلسطيني الذي ولًد كثيرا من المناكفات السياسية والدينية والتي مست بشكل مباشر مدينة القدس والمسجد الاقصى المبارك،وكان آخرها حرب الفتاوى التي صدرت مابين محرم ومبيح لزيارة القدس والصلاة في المسجد الاقصى المبارك وهي تحت الاحتلال لدرجة أن الامر وصل الى التجريح والتخوين والتطاول على العلماء والرؤساء واصبح يفتي في هذا الامر صاحب الاختصاص وصاحب السياسة وأصبح هناك فرق مختلفة وأحزاب لها وجهات نظر في الزيارة من عدمها .وقبل أن اورد وجهات النظر المختلفة في الموضوع أود أن أؤكد أن أهل الاختصاص والمشتغلين بالعلم الشرعي هم أولى باصدار مثل هذه الفتاوى فلماذا لم يتم احالة الامر رسميا على الازهر الشريف او هيئة كبار العلماء او تكوين لجنة من كبار علماء الشريعة أو مجمع البحوث الاسلامية التابع للازهر الشريف لاصدار رأي ملزم لان الامر يتعلق بفتوى وشأن زيارة القدس وهي تحت الاحتلال هو مثل كل عمل يصدر عن المسلم فقد يكون حلالا وقد يكون حراما وقد يكون تطبيعا مع الاحتلال واعترافا بهيمنته عليها لمحاولاته تهويدها وطمس معالمها العربية والاسلامية وقد تكون رباطا حسب نية الزائر ،ومعلوم أن الفتوى الشرعية ليست هي مجرد ابداء رأي سياسي أو فقهي بل هي" اسقاط الحكم الشرعي على الواقع" ومن هذا المنطلق يجب تكوين لجنة شرعية من علماء الامة لاصدار فتوى رسمية ملزمة للجميع واغلاق باب المناكفة فيه.
ان الآراء قد تباينت في هذا الأمر مابين مؤيد للزيارة ومابين معارض لها فأما الرأي الأول الذي يؤيد زيارة القدس والصلاة في المسجد الأقصى والمبيت في فنادقها والشراء من محلاتها لدعم اقتصادها وعلل ذلك بقوله: ان واقع القدس الآن كمانتابع في الأحداث يندى له الجبين فهي معزولة عن محيطها الفلسطيني بجدار الفصل العنصري والحواجز العسكرية ومنع دائم لأهل فلسطين من غير القدس للدخول اليها أو الصلاة في المسجد الاقصى بل يمنع المصلين من كان عمره أقل من خمسين سنة للصلاة في المسجد الاقصى وفي مقابل ذلك تقتحم الجماعات اليهودية المتطرفة المدعومة من جيش الاحتلال ساحات المسجد يوميا وتقيم الصلوات التلمودية فيها ومعلوم ان القدس تعتمد في اقتصادها على الفلسطينيين الزائرين اليها والتسوق في أسواقها والمبيت في فنادقها ودعم اقتصادها فمابالنا لو منع هؤلاء الزائرين بالتأكيد فان الاقتصاد سينهار وفي مقابل ذلك وضع المخططات الاسرائيلية لبناء مراكز تلمودية ومجمعات سكنية لاسكان اليهود مكان بيوت المقدسيين بعد طردهم منها فهل نترك القدس لهم ونرحل عنها ونقول لا أحد يدخلها حتى يعتبر ذلك تطبيعا أم نفعل كما أمرنا الرسول صلى الله عليه وسلم لشد الرحال الى الاقصى وقال "لاتشد الرحال الا الى ثلاثة مساجد المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى."وهو أيضا الذي جاء الى القدس وصلى بالانبياء اماما ليلة الاسراء والمعراج قبل الفتح الاسلامي أفلا نتأسى به.ألم يدخل الرسول صلى الله عليه وسلم مكة في عمرة القضاء وطاف حول الكعبة وكانت لاتزال بين يدي الكفار ولم يتم فتحها .ألم يقل الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث ميمونه بنت سعد مولاة رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما قالت له أفتنا في بيت المقدس فقال " أرض المنشر والمحشر أئتوه فصلوا فيه فان الصلاة فيه كألف صلاة فيما سواه..." وقال أصحاب هذا الرأي ان من يحرم زيارة القدس باعتبارها تطبيعا مع الاحتلال فهو اجتهاد خاطيء ومجانب للصواب ودعوة مريحة للاحتلال وداعمة لأهدافه السياسية فزيارة السجين لاتعني التضامن مع السجان والقبول به، واذا تركنا الأمر لليهود فان القدس في هذه الحالة سوف لن يبقى فيها الا اليهود حيث المشروع الصهيوني المخطط لان يكون عدد السكان اليهود في عام 2020 مليون يهودي فكيف سنحفظ الوجود الاسلامي والعرب فيها .وان ترك زيارة القدس للفلسطينيين فقط هو تجريد لها من عمقها العربي والاسلامي وهذا سيجعلها ضعيفة على المستوى العالمي والقدس ليست للفلسطينيين وحدهم وانما هي للامة لانها جزء من عقيدتها ودينها بنص قرآني "سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام الى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله..." كما ان القدس وقعت مثل ذلك تحت الاحتلال الصليبي لسنوات وعقود طويلة فأين الفتاوى بتحريم زيارتها على المسلمين وكان آنذاك العز بن عبد السلام وأبو حامد الغزالي وابن تيمية فهؤلاء زاروها وأقاموا فيها وغيرهم من علماء بلاد الاندلس كالطرطوشي وابن عربي فلم يصدر أي منهم فتوى بتحريم زيارتها وهي تحت احتلال الفرنجه ،كما ان الجزائر قد خضعت للاحتلال الفرنسي اكثر من 130 عاما ولم نسمع أحدا من العلماء حرم دخولها على غير الجزائريين بسبب احتلالها ومثلها مصر والشام وغيرها من بلاد العرب والمسلمين التي خضعت للاحتلال .ان زيارة القدس يمكن ان تكون تطبيعا اذا كانت ذهابا للمحتلين بهدف عقد اتفاقيات تجاريه أو اقتصادية أو استثمارية أو سياحية معهم أما الزيارة كمسلمين للصلاة في المسجد الاقصى المبارك بنية الاعتكاف والرباط فيه ودعم وصمود أهل القدس فهذا واجب مفروض على كل مستطيع.
أما الرأي الثاني والقائل بتحريم ومنع زيارة القدس والصلاة في المسجد الاقصى طالما أنه يرزح تحت الاحتلال الاسرائيلي لان ذلك يعد تطبيعا مع الاحتلال واعترافا بشرعيته فقال اصحاب هذا الرأي ان من حق الفلسطينيين ان يدخلوا القدس كما يشاؤون لكن بالنسبة لغير الفلسطينيين لايجوز لهم ان يدخلوها حتى لايتم اضفاء الشرعية على المحتل ومن يقوم بالزيارة يضفي شرعية على كيان غاصب لأراضي المسلمين ويقدم خدمة مجانية للاحتلال الصهيوني ويجبر على التعامل مع سفارة العدو للحصول على تأشيرة منها وان الذهاب الى القدس الآن بتأشيرة اسرائيلية يعطي انطباعا بان الامور عادية ،وان الزام الداخل بتاشيرة اسرائيلية هو اعتراف بشرعية اسرائيل فلابد ان يكون هناك مقاطعة لهذه الزيارة للاستمرار في عدم الاعتراف لهذا الكيان وان التواصل يكون بالنصرة والصلة الدائمة عبر المساعدات الفعالة التي تعطي القوة للفلسطينيين وان زيارة السجين من أهل فلسطين ليست تطبيعا ولكن زيارة السجين من أناس من خارج فلسطين بأخذ تأشيرة من المحتل والاعتراف به فهو أمر خاضع لمدى الضرورة ومايتعلق بصحة هذا السجين ومدى تعرضه للخطر فاذا دعت الضرورة زيارة طبيب أو محام فله ذلك واذا لم تدع الضرورة فليس له ذلك لما يترتب على هذه الزيارة من أضرار على المسلمين ومنفعة للمحتل وفي المحصلة النهائية فانه لايصح الاستدلال بزيارة السجين على زيارة الأقصى والقدس والأصل ان ندعو لتحريرها ومقاطعة المحتل لا ان ندعو الى التطبيع معه والاعتراف به والذهاب لسفاراته للحصول على تأشيرة والمرور من بين يدية ،وتعقيبا على حديث الرسول صلى الله عليه وسلم "لاتشد الرحال الا الى ثلاثة مساجد...." ولم يكن المسجد الاقصى حينها تحت حكم المسلمين بل كان تحت حكم الرومان والحكم عام في كل الظروف والأحوال والأوقات فهذا أمر خاطيء حيث أن قياس الزمن الذي ورد فيه هذا الحديث مع هذا الزمن قياس مع الفارق حيث أن الوصول للأقصى كان ممكنا دون الحصول على اعتراف من الغاصب المحتل ولاينبغي أن يغيب فهم الواقع عن المفتي.كما أن الرومان لم يحتلوا الأقصى من المسلمين انما جاء ذلك في حقبة تاريخية ممتدة، وهناك فرق بين الرومان واليهود وان فهم الحديث يدل على انه دعوة للاهتمام بالاقصى وضرورة العناية به بكل طريقة ممكنة اما بالسفر والصلاة فيه أو بارسال زيت لقناديله .
اما الاستدلال بمعجزة الاسراء والمعراج وان النبي صلى في الاقصى وهوتحت حكم الرومان فهذا لايصح ان يكون حجة أو مستند للحصول على تأشيرة من المحتل للدخول الى الأقصى والرسول صلى الله عليه وسلم لم يحصل على تأشيرة من أي سفارة عندما حضر للأقصى ،أما طواف الرسول صلى الله عليه وسلم ودخوله مكة وبها الاصنام والكفار ولم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم معترفا بالاصنام ولا الكفار ورغم ذلك دخل مكة وطاف بالكعبة وهذا تأكيدا لحقه المشروع في زيارة الكعبة المشرفة فلايمكن ان نقارن هنا بين من يعيش في بلده الاصلي ويصلي في مسجده ويطوف في بيته ويتجرع ألم المعاناة والعذابات مقابل دينه بمن يريد أن يذهب زائرا الى المسجد مقرا للمحتل على مقدساته وحاصلا على تأشيرة من سفارته . ولقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم في هذه الفترة في مرحلة استضعاف في مكة وكان في مرحلة التأسيس والدعوة وليس في مرحلة التغيير والعودة كما ان القدس زمن الحروب الصليبية كانت مغلقة على المسلمين حيث أن الحروب استمرت فيها سنوات طويلة وان المسجد الاقصى توقفت فيه صلاة الجمعة عقودا من الزمن وأن المنطقة برمتها كانت تحت الحكم الروماني الى أن جاء صلاح الدين الايوبي وقام بتطهير البلادوكان الفقهاء والعلماء حينها لم يشغلهم أمر الذهاب الى الأقصى بقدر ماكان يشغلهم تحريره .
ومن هنا نرى أن لكل من الرأيين وجهة نظره وبأدلته المذكورة ولكن مايجمع الرأيين هو الكراهية والبغض للاحتلال الاسرائيلي وعدم الاعتراف به ووجوب تحرير القدس وتخليص المسجد الأقصى من المحتلين وان هناك مسؤولية كبيرة على كل مسلم للدفاع عن القدس لحفظها ودعم أهلها والدفاع عن مسجدها وتحريره وان كل رأي له أسانيده فمن أراد أن يأخذ بالرأي الأول فعليه أن ينوي الرباط بل والجهاد في سبيل نيل الثواب للصلاة في المسجد الأقصى والحصول على ثواب الألف صلاة لكل صلاة فيه .ومن يريد أن يأخذ بالرأي الثاني فعليه أن يرسل زيتا اليه ويؤدي ماعليه من مسؤولية دينية في الوقوف بجانب أهل القدس حتى ينوب عنه في حماية المسجد الأقصى وسكان مدينة القدس كي يستطيعوا مواصلة الكفاح والمقاومة من الداخل ،وعلى ذلك فهذان الرأيان كل منهما يؤدي الى معنى واحد هو معاداة الاحتلال ونبذه وكراهيته ووجوب طرده من القدس ،واننا اذ نرد على ماقاله بن غوريون "لامعنى لاسرائيل بدون القدس...ولامعنى للقدس بدون الهيكل" ونقول له" لامعنى لفلسطين بدون القدس...ولامعنى للقدس بدون المسجد الأقصى"
الكاتب: القاضي د.ماهر خضير
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت