زواج الفِيلَة مطلب جماهيري !!!/ عبدالحليم أبوحجَّاج


يُحكَى أنَّ فِيلة ضخمة تملكها أميرة القرية , تتركها تجوس خلال الديار , تُفسِد الزرع وتردم الآبار وتُخرِّب العمار . وطال الزمان على هذه الحال من الاصطبار على المكروه إلى أن بدا الاستياء والتذمـرعلى الوجوه , وكثرالكلام على الألسنة بالقيل والقال . فاجتمعوا في ميدان الغابة وأخذوا يتعاكظون ويتصايحون ، يهدِّدون ويتوعدون . وانتهى بهم الاجتماع – بعد مدٍّ وجزر – على تنصيب رجل منهم أخذته الحَمَّية ودفعته النخوة العربية فـوَلِيَ أمرَهم , وأفصح لهم أن الحل يكمن في اتحادهم ونبذ خلافاتهم ، واقترح عليهم أن يتجهـوا في مسيرة شعبية كبرى إلى قصرالأميرة عارضين عليها مطالبهم في أن تكف عنهم هذا البلاء الذي أحدثته ومازالت تحدثه فيهم هذه الفيلة من تخريب وإفساد ، وقد حرمتهم كثيراً من أرزاقهم زمناً طويلا . وتعاهدوا ألا يبرحوا الساحة حتى تلبى نداءهم في إعطائهم حريتهم ورفع هذا الظلم عنهم ، وإنْ لم تفعلْ يُصَعِّدوا احتجاجهم إلى ثورة سلمية لإسقاط النظام . وافق الجميع , وتعالت هتافات الجماهير مؤكدين على المشاركة في هذه المسيرة الحاشدة " ويد الله مع الجماعة " . استبشَرالقوم به خيرًا، فتزَعَّم حركتهم الشعبية , وتقدم صفوفهم وكله حماس لتحقيـق تغيير يتلوه إصلاح . ويزداد همة ونشاطاً حين ينظر فيرى الناس جميعاً من ورائه يُرَدِّدُون هتافاته : ( الشعب يريد رحيل الفيلة !) . ولكنه كان في كل محطة يقفون فيها للاستراحة يرى العدد يتناقص .... وظل يتناقص ويتناقص إلى أن اقترب من أسوار القصر , فالتفت ينظر وراءه ليخطب فيهم ما يشحنهم على عدم التراجع ، وعدم القبول بالحلول الوسطية المُخَدِّرة التي تُطفئ الهمم , وإذا به لم يرَ إلا نفسَه , بعد أن تساقطوا كما يتساقط ورق الشجر في فصل الخريف... حينها تراءى له حجم العقاب الذي ينتظره وحده ، فاشتعل قلبه غضباً عليهم يخالطه الخوف على نفسه وعلى أسرته ، وطوقته الحسرة واعتراه الندم على ما بدر منه ، ولكنه تدارك الأمر بهتاف مجلجل (الشعب يُجَدِّد ولاءه للأميرة ، ويريد تزويج الفيلة الجميلة !) .

الأميرة تقف في شرفتها تنظر إلى رجل يتقدم من بوابة القصر فيعترضه الحرس ، ولكنها تلوِّح بيدها أن اتركوه يدخل ثم يقف قريباً منها بعد أن سكت عنه الغضب وفارقه الخوف . فتسأله : ماذا بك أيها الرجل ؟ هل لك من حاجة نقضيها لك . تلـفـَّت الرجل حواليه ونظر نظرة أخيرة إلى الخلف ، وعندما تأكد أنَّ القوم تخلوا عن مبادئهم وعن مطالبهم ، فخذلوه وتركوه يواجه هذا الابتلاء الصعب وحده أمام الأميرة التي لا ترحم من يخالف لها أمراً . قال وهو يغتصب ابتسامة يضعها على شفتيه : أصلح الله حال أميرتي ...نعم ، لي حاجة .... وددتُ لو تتكرمين علينا فتقضينها لنا ، نكون – أنا وأهل القرية – من الشاكرين لك ِ. قالت : تكلم يا رجل ؟ ماذا تريد ؟ . قال : الفيلة يا مولاتي . قالت متسائلة ما بها ؟ هل أصابها مكروه ؟ . قال وقد بسط يديه وانحنى برأسه وقامته أمام أميرته : كلا يا مولاتي , هي بخير . قالت : إذن ماذا بشـأنها ؟! . قال : لقد انتدبني أهل القرية لأنقل إلى مولاتي اشتياقنا لعرس أميريٍّ يفرح فيه الجميع ؛ فنقيم حلقات الرقص والغناء فتهتز الأرض من تحت أرجل ( الدَّبـِّيكـَة ) ، وتقام الولائم وتُمَدُّ الموائد بالأطعمة الشهية ، فنُطعَم منها ما لذ وطاب... فهَلا وافقتْ مولاتي على تزويج الفيلة الحسناء بدلا من أن تبقى عزباء يطمع فيها الغرباء . وبهذا نكون قد ضربنا عصفورين بحجرواحد . تساءلت باستغراب ظاهر : وما العصفوران أيها الرجل ؟ . قال متلطفاً : أولا : نحفظها من اعتداء الحيوانات الشرسة الطامعة في جمالها , فكرامتها من كرامتك وشرفها الرفيع من شرفك يا مولاتي . ثانيا : نزوجها بفيل يؤنسها ويهدئ من روعها، ويزيل عنها العصبية ، فيزول عنها الغضب ، ويَقِلُّ بطشها ويَخِفُّ عـنفوانها يا مولاتي ، فزواج الفيلة مطلب جماهيري . ابتسمتْ الأميرة وقـالت لنفسها بصوت مسموع : فكرة رائعة , تستحـق عليـها المكافأة ! . توقفتْ لحظة وهي تهزُّ رأسها إعجاباً به ، ثم استأنفتْ خطابها : لك هذا أيها الرجل المخلص , سأطلب لها اليوم فيلاً يليق بها من المملكة المجاورة ، وغداً ستشاهدونها تمرح بصحبة زوجها . اذهب واخبر أهل قريتك أنني استجبت لسؤلهم . ثم أَمَرَتْ الأميرة بإعطائه مكافأة مالية ، فألقيتْ إليه في صُرَّة تناولها وانحنى بين يديها راسماً على محيَّاه ابتسامة باهتة ، ساخراً من نفسه ومن قومه ، فقد أنجزوا تغييراً ولكن بلا إصلاح ! .

خرج الناس في اليوم التالي لينظروا إلى الفيلة ماذا عسى أن يكون من أمرها , فإذا بها تصطحب معها فيلاً عظيماً ، ( يتأبط ) كلاهما خرطوم الآخر؛ ويشاركها الجري واللعب بين الزروع والحقول ، فيحطِّمان كل شيء يَمُرَّان به ، فزاد الخراب والدمار، وأصيب أهل القرية بمزيد من الحزن والمرارة ، وأخذوا في لوم صاحبهم ومعاتبته على ما حلَّ بهم من خسارة : ماذا فعلتَ بنا ؟ أرأيتَ إلى أين أودتْ بنا مشورتك ؟. لقد كنا بواحدة فأصبحنا باثنتين !...ماذا حدث معك ؟. قال في جسارة : لا تـلوموني بل لوموا أنفسكم . لقد خُنتم العهد , وضيَّعتم الأمانة وانصرفت عنكم مروءتكم ... تخليتم عن مبادئكم وتخليتم عني ، فأضحت القرية كلها ضحية تنظير قياداتكم ونهباً لأنانية مستشاريكم ، فاستمسكتم بما فرَّق شملكم وزَرَع البغضاء فيكم : (الخصومات القبلية ، والنزاعات الحزبية ) . وأصبحتم بها أعداء لا تأتلفون ، ولا تجتمعون على رأي ، " تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتَّى "، فتعسَّرتْ معيشتكم ، وطغتْ عليكم الأميرة بما عصف بأحلامكم ، وسخَّرتـْكم لمشيئتها ، فزادت علـيكم الأوجاع ، فذوقوا الذلة بما كنتم به تأتمرون . ولمَّا حاولوا تبرير مواقفهم سخِـر منهم ونهرهم هازئاً : هيا اذهبوا ، فلا حياة كريمة للفرقاء ، ولا حرية تأتي بها الحوارات والاستجداءات ، ولا نجدة تأتيكم من خارج ، فإما أن تتطهروا من أحزابكم وتحطموا أصنامكم وتستردوا وحدتكم وتنتزعوا حقوقكم بسواعدكم ، وإما أن تستعدوا لتقيموا الأفراح والليالي الملاح بمناسبة زواج الفيلة السعيد حتى يرضَى عنكم العروسان فترضَى عنكم أميرُتكم وولية نعمتكم ...أيها العبـيد !! . فأخذتهم الدهشة ، وكَبُرَ مقتهم لمَّا رأوا العذاب بعين المستقبل يزحف عليهم حين تتوالد وتتكاثرالأفـيال ، ويزيد استيطانها في الحقول والمزارع وبين الدُّور، وقد تضطرهم إلى الرحيل حين تضيق الأرض بأهلها ويَعُمُّ البلاء العظيم ... فتعالى صراخهم و" أقبل بعضهم على بعض يتلاومون " ، وما زالوا في أوحالهم يغرقون !!!...*

للكاتب الصحفي/ عبدالحليم أبوحجَّاج

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت