"آن أن تنصرفوا"/فراس ياغي


"أصعب ما في النقاش ليس الدفاع عن وجهة نظرك، بل معرفتها"، مقولة للمؤلف الفرنسي "أندريه موروا"، تنطبق وبشكل عكسي على مزوري الحقائق ومفبركي الأحداث، وأصحاب الفتاوى، والداعين لمؤتمرات ومواقف دولية تستهدف الثورة قبل النظام، فهؤلاء يعرفون جيدا ماذا يريدون، ويعملون وفقا لذلك وبكل الطرق، فالغاية لديهم تبرر الوسيله ولكن ليس على الطريقة "الميكافيلية"، بل وفقا لأجندات خاصة بالعائلات الحاكمة من ملوك وأمراء ينعمون بالثورات والخيرات الخاصة بشعوبهم وبالعالم العربي جميعا...تبنوا الثورات بتبني الكتلة السياسية "الاسلاماوية" والتي حصلت وبشكل ديمقراطي على الاغلبية في تلك البلدان حتى الآن..النتائج كانت فوضى في "ليبيا" وإقليم جديد يدعى "برقة" وبرئاسة وريث العائلة المالكة السانوسية السابقة، في "تونس" مفجرة ما يسمى "الربيع العربي" مؤتمر دولي عربي للهجوم على "سوريا" الدولة والثورة والنظام، وفي "مصر" ميدان التحرير، صفقات وصفقات لا تنتهي ستؤدي حتماً لقبر مطالب الثوار ممن كانوا قبل حين في إئتلاف الثوار، أما "اليمن" فقد تمت التسوية بطريقة المصالاحات العشائرية وأخذت "عطوات" أدت لانتخاب المرشح الوحيد وبشراكة جديدة مع حزب الاصلاح الاسلامي وشيوخ الاحمر الذين كانوا جزءا أيضا من إئتلاف الثوار مع ترك شباب الثورة الطامحين للحرية ومحاربة الفساد والديمقراطية بعيدا عن أي مشاركة بسبب جذرية مواقفهم، وفي "البحرين" المسالة مختلفة فلا مجال هناك للسيطرة على الثورة من جهة ومن جهة أخرى العائلة الحاكمة عضو فاعل في تحالف الثوار الجديد الذي يتكون من ملوك وأمراء الخليج وما يطلق عليه الإسلام السياسي من سلفيين وقاعدة وغيرهم..أما في "سوريا" فالمسألة هناك تتعدى تلك الربيعيات، فالمشروع بخصوصها يستهدفها كدولة قبل النظام، وبقائها موحدة ليس في صالحهم ولا في صالح دويلاتهم، يريدونها طوائف ومذاهب تتقاتل فيما بينها ليتحقق حلمهم في مشروعهم الظلامي، الذي يريد أن يحول العالم العربي بزيتهم ودولاراتهم إلى إمارات صغيرة كدولة "قطر" رغم ان الزيت والطاقة خُلقت لتنير الظلام لا لتحويل المتنور منه لظلام.

الشاعر الفلسطيني "تميم البرغوثي" كتب مقالاً بعنوان "خمس أزمات أخلاقية"، وقال عن سوريا: "إن كان تأييد الحكومة ممتنعا، وتأييد المعارضة ممتنعا، وتأييد المتظاهرين دون المعارضة ممتنعا، والصمت ممتنعا، والكلام مؤلما، فأهون الشرور الخمسة هو الكلام، لبراءة الذمة، والتحذير من الخطر الذي أرى"..وشخصيا أقف مع التميم في الكلام والتحذير والتحليل، لكن التأييد يجب أن لا يكون ممتنعا لحوار سوري-سوري، حوار يجمع النظام وأطياف المعارضة المختلفة والمستقليين والفئات الاجتماعية المختلفة..حوار مهمته الحفاظ على الدولة السورية ومواقفها ورفض التدخلات الاجنبية بجميع أشكالها، حوار يؤدي لمصالحة مجتمعية بلفظ الارهاب والقمع، حوار يؤسس لسوريا الجديدة بديمقراطية وتعددية وحرية رأي ومحاربة للفساد في الدولة، حوار يزيد من منعة سوريا ودورها الريادي في المنطقة..وغير ذلك ما هي إلا وصفات للاقتتال ولتمزيق الدولة وما حولها من دول في الاقليم.

المؤامرة على سوريا النظام والثورة بانت جليا، ولم تنفع كل الفبركات الفضائية ولا المساعدات بالعتاد والرجال والمال للارهاب من كسر شوكة الشعب السوري الابي الذي إختبر ما جرى من حوله في الاقليم..فالاصلاحات لا تكون جذرية بالمفهوم "البلشفي" ولا "الايراني" كثورة، فعناصر الثورة لم تتوفر في كل الربيعيات العربية، والحراك الشعبي أسس لتغيير تعددي ظاهري أكثر من كونه جوهري، المؤسسة الموحدة والقادرة على فرض شروطها وفق مصالحها ما زالت تسيطر على مختلف الاوضاع في بلدان ما يعرف بالربيع العربي وبدعم خليجي وأمريكي، في حين في سوريا لم يستطيعوا الوصول لها ولن يستطيعوا..ورغم ما حدث في بعض تلك البلدان من إنتخابات نزيهه، إلا أن مشوار الاصلاح والمحاسبة والشفافية شاقٌ وطويل، فالقادمون الجدد عبر صناديق الاقتراع يعقدون الصفقات مع مؤسسة الجيش ومع الغرب والخليج، وهذا بالضرورة سيعكس نفسه بشكل كبير على الاوضاع الداخلية من حيث سرعة التغيير، وعلى السياسات الخارجية من حيث متطلبات المحاور الاقليمية التي كانت موجودة برعاية الخليج ونظام مبارك المخلوع.

في سوريا التغيير الايجابي الداخلي مهم وضروري، والتسريع به لا يكون بالوقوف مع طروحات ما يسمى "مجلس إسطنبول" ولا التوافق مع الطروحات القطرية والسعودية، التغيير يتم سوريا وبإرادة سورية، وبحيث تكون الدولة هي العنوان وليس الاجندات الخارجية والكراهية المتأصلة لدى بعض رموز المعارضة، التغيير يجب أن يواءم متطلبات سوريا ودورها الوطني والقومي ويعززها بتحولات ديمقراطية وتعددية ومحاسبة الفاسدين والمفسدين، وحتى تصل سورية لشاطيء الامان، فعلى الغيوريين في الدولة من النظام والمعارضة والمستقلين أن يتكاتفوا ويجلسوا ويتجاوزوا الدماء العزيزة والغزيرة التي سالت لإنقاذ الوطن..وعلى المتآمرين أن ينصرفوا، فقد "آن أن تنصرفوا..وتقيموا أينما شئتم ولكن لا تقيموا بيننا..فلنا في أرضنا ما نعمل..ولنا الماضي..ولنا الحاضر، والحاضر، والمستقبل..ولنا الدنيا هنا..فاخرجوا من برنا..من جرحنا..من بحرنا..من قمحنا..من ملحنا..من جرحنا..وإنصرفوا"، هذه وصية "درويشنا" لكل المرتزقة، إنصرفوا إلى باريسكم..وإنصرفوا إلى عاروركم..وإنصرفوا إلى بترولكم وجزيرة رأيكم ورأيها الآخر.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت