لا أشك لحظة واحدة بأن جيلنا ومن كان قد سبقنا عمراً وزامننا في حقبة الستينات وأوائل السبعينات لا يذكر بفخر واعتزاز تلك الأنشودة الوطنية الرائعة التي صدحت بها حنجرة السيدة أم كلثوم "رحمها الله" يوماً من إذاعة صوت العرب من قاهرة المعز فأحسسنا حينها (وبعد كل مرة أذيعت) بزهو وكبرياء، هذا كما وذرفنا الدمع فرحاً ونشوى، يومها أعلنت بلسان كل فلسطيني قاسى الظلم والقهر والحرمان والضياع والتشتت بأنه قد "أصبح عنده الآن بندقية"، وأنه قد آن الأوان لشد الرحال حيث الرُبَى الحزينة كوجه المجدلية، وحيث القباب الخضر والحجارة النبية في فلسطين لأداء ما عليه من واجب شرعي ومقدس، فقد بشرتنا "كوكب الشرق" أم كلثوم رحمها الله بأنشودتها تلك بأن شعب فلسطين قد خرج من تيهه وضياعه الذي استمر عشرين عاماً منذ نكبة العرب والمسلمين في 1948 فأصبح لديه أخيراً... بندقية يرفعها بساعده ويتنكبها على كتفه مزهواً، وبرغم ذاك الزهو والخيلاء، فإنني وللأسف الشديد لا أظن إلا لماماً أن جيل أبنائنا وأحفادنا ممن زامن حقبة التسوية والاستسلام وإلقاء البندقية من على كتف الثوار يذكر مقطعاً واحداً من تلك الأنشودة الرائعة لأسباب ستعلمونها لاحقاً!!.
لقد عاش أبناء العروبة زهوهم ومجدهم إبان حقبة زعيم العرب وقائد القومية العربية وملهمها ومفجر طاقات شعبها خالد الذكر جمال عبدالناصر "رحمه الله"، التي جاءت بكنفه تلك الأنشودة القومية الرائعة التي كتب كلماتها الشاعر العربي السوري نزار قباني، فتلاقفتها الإذاعات العربية وراحت تذيعها صباح مساء لتعلن عن التصميم والإرادة على القتال دفاعا عن أرض فلسطين، تأسياً بما صنعته إذاعة صوت العرب من القاهرة، وما هي إلا بضعة أشهر تلت رحيل القائد العروبي الخالد ملبيا قضاء الله سبحانه وتعالى وقدره المحتوم حتى أعلن عن كامب ديفيد وما أعقبها بسنوات من مصيدة الاستسلام والانبطاح للهيمنة الصهيوأمريكية، ليلقي "بعض" ثوار الأمس بندقيتهم تلك مراهنين على جدوى تسوية قيل أنها ستجلب السلام والأمان والكرامة الفلسطينية المهدورة، وليطوي النسيان تلك الأنشودة الخالدة وليعلن بشكل ضمني عن أفول نجم العروبة قاطبة وانكفاء طاقاتها الخلاقة المجيدة حتى يومنا هذا!!.
إنني تالله لا أدعي رجماً بالغيب لو قلت بأننا قد انكفأنا عن خط الثوار وتحرير الأرض التي تحدثت به الأنشودة الرائعة تلك، كما ولا أمارس فن التنجيم وقراءة البخت من فنجان لو تجرأت منبهاً محذراً بأننا قد حـِدْنا عن خط الشرف والكرامة والنضال، فكل الشواهد التاريخية تشير إلى حقيقة ذات وجهين متناقضين:
1- صدق ما بشرت به السيدة أم كلثوم رحمها الله وأعلنته بنشيدها ذاك وما زرعته من أمل في نفوس تاقت للكرامة وانتزاع الحقوق، وما رسمته من مشهد وردي طال انتظاره لعشرين عاما متواصلة!!.
2- كذب وخنوع وانبطاح من ألقى البندقية عن كتفه طوعاً واجتهاداً ثم سار خلف وهم وسراب تسوية مخادعة، فكان بفعلته غير المدروسة تلك قد أصاب بذلك قضية فلسطين مقتلاً والحق بها التسويف والتدليس والدخول من جديد في متاهات الزمن العقيم والغادر، ولعل أسوأ تبعات ذاك الخنوع وإلقاء البندقية والجري لسنوات طوال خلف وهم وسراب تسوية زائفة ماكرة، ذاك التنافر والانقسام الشديد بين طرفين وطنيين فلسطينيين كانا من الثوار فانقلب أحدهما مهادنا مؤيداً لتسوية عبثية مع العدو الصهيوني سارق الأرض فيما ظل الآخر رافضاً لتلك التسوية المذلة!!، وما زاد الطين بلـّة والمشهد الفلسطيني تعقيدا على تعقيد أن عدوى الانقسام والتشظي والخلاف قد أصابت الفصيل الثوري الواحد ليتبنى أعضاؤه كل منهما وجهة نظر متباينة إزاء القضية الفلسطينية!!.
تعالوا أيها الأحبة:
أولا ... لنستذكر كلمات تلك الأنشودة الرائعة التي صدقت رؤية كاتبها "نزار قباني" لتجد طريقها ومفعولها السحري بأبناء العروبة من خلال حنجرة سيدة الغناء العربي ، تلك الكلمات الصادقة المؤمنة التي تحدثت عما كان يجري من ضياع وتيه للفلسطيني قبل امتلاكه البندقية، وبحثه الشاق والحثيث والمضني عن وسيلة تقرب منه الأرض التي سلبت وكيفية استرجاع هويته الوطنية، وكيف تحقق له ذلك بعدما امتلك البندقية، مدركاً حينها أن "بارودته" صارت رمزاً لقضيته!!.
ثانياً ... ومن ثم لنستذكر كرة أخرى مشهد انطلاق قطار التسوية مع العدو الصهيوني بمباركة أمريكية وخضوع عربي مهين بعد سنوات من سماعنا لتلك الأنشودة الوطنية، يومها خُلـِعـَتِ الملابس الثورية المباركة المغبرة بتراب سهول وجبال فلسطين إلا من رحم ربي، وتغيرت اللهجات وألقيت البنادق من على بعض الأكتاف "الثورية!!"، فيما غلقت أفواه أصحاب نهج رفض الاستسلام والتسوية وكممت وزج بها في غياهب السجون والمعتقلات على مختلف أنواعها - الفلسطينية والصهيونية!!- بحجة إفساح المجال لإنجاح التسوية والحفاظ على مكتسبات أوسلو ومعطياتها واحتراماً لتعهداتها!!، لتندثر بعدها معاني تلك الأنشودة الثورية الملهمة الرائعة وتصير أثراً بعد عين – كغيرها من أناشيد وطنية عروبية ثورية -، ولتغدو حبيسة قمقم الوجدان العربي، فما عدنا نسمعها من خلال المحطات الإذاعية العربية مرة أخرى!!.
وأتساءل بعد ذاك السرد الموجز والمقتضب: ما الذي تحقق من رحلة أوسلو!؟ وما تداعيات إلقاء الثوار لبنادقهم من على أكتافهم!!؟، وما الذي التزم بتحقيقه الكيان الصهيوني ونفذه!؟.
والجواب لعمري على ما تحقق من تلك التسوية واضح وضوح الشمس في رابعة يوم قائض لاهب لا يقبل جدالاً ولا فصالاً ولا تورية، يتمثل بالعودة من جديد لمرحلة الضياع والمتاهة، العودة من جديد لما قبل إنشاد أم كلثوم "أصبح عندي الآن بندقية"!!، بل وأسوأ من ذلك بكثير:
1- فالأرض الفلسطينية قد ابتلعت وسط متاهة تسوية عبثية!!.
2- وأوشك الانتهاء من تهويد ما تبقى من أماكن مقدسة عربية وإسلامية!!.
3- فيما تواصل تقطيع أوصال مدن الضفة الغربية وقراها!!.
4- والجانب العربي بأنظمته جامد لا يحرك ساكناً!!.
5- وموقف راعي "السلام!!" الأمريكي على حاله من التدليس والمراءاة ومحاباة الجانب الصهيوني!!.
6- واختلف إخوة نضال الأمس بين مؤيد ومعارض لأوسلو ليشتعل إوار القتال والتناحر حتى يومنا هذا، كل ذاك جرى والعدو الصهيوني مأمون الجانب مستكيناً آمناً هادئ الروع على كل الجبهات العربية، متفرغاً لتنفيذ ما تبقى له من أجندة قرير العين سعيداً بما تحقق له!!.
ثم قلنا لا بأس، فقد اجتهد من اجتهد في تسوية ربما كانوا قد رأوا فيها خيراً ما لم نره نحن، وظن أن خلف أكماتها خلاص شعب فلسطين، ومرت السنوات العجاف ثقيلة، فيما نزيف دم القضية يجري وسط شد وجذب وصراع مرير بين نهجين فلسطينيين أحدهما كان قد انصاع للتسوية وآمن بجدواها فأثبت الزمن فشلها فشلاً ذريعاً، ولقد استبشرنا خيراً حال سماعنا مِنْ أنّ مَنْ آمن بخط التسوية قد أدرك أخيراً خطأ ما سار به، وحمدنا الله كثيراً حين تناهى لأسماعنا وقرأنا بأم أعيننا أن جهوداً حثيثة – عربية وفلسطينية – قد بذلت لوأد الخلاف والتناحر بين أشقاء نضال الأمس بعد انكشف زيف التسوية، كان آخرها ما تم الإعلان عنه في الدوحة التي ساهمت بتشويه صورة ربيع التغيير العربي وتحريف وجهتها النبيلة!!.
حان لنا أن نتساءل، بعدما نفد صبرنا وانتظرنا طويلاً، فما - بالله عليكم- آخر أخبار تلك الجهود الخيّرة والساعية للملمة الصف وتوحيد الكلمة!؟، أم أن "حليمة الفلسطينية" قد أصرت على التمسك بـ"عادتها القديمة" من نقض لعهود ونكوص على تفاهمات وطنية مشرفة لوأد الفتنة ولم الشمل!!.
أجل ... فورب الكعبة المعبود قد نفد صبرنا، ولم يبق في القوس منزع، فيا شعب فلسطين الجريح، أقسم بعزة الله وجلاله أن قد صدقتك أم كلثوم بما بشرتك به بأنشودتها تلك، فيما كذب عليك آخرون!!، وأقسم بالله ثلاثاً أن لا خيار أمامك إلا بإعادة الاعتبار من جديد لأنشودة العز والفخار "أصبح عندي الآن بندقية"، فتكون فلسطين - ساعة ذاك- قاب قوسين أو أدنى منك، تماماً كما كانت من قبل أن تـُلقـَى بندقية الشرف والكرامة من على أكتاف الثوار بخديعة استرداد الحقوق عن طريق التسويات الزائفة الماكرة المخادعة!!.
وأعلموا يا أبناء فلسطين ويا أبناء العروبة، أن الطريق لفلسطين واحد يمر من فوهة بندقية، وتذكروا المثل الألماني القائل: "إن كنت تسعى لسلام فهيئ مدافعك أولاً"!!.
سماك العبوشي
19 آذار 2012
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت