أيها المارّ تذكر فعلتك موت الحسّون/ أحمد عبدالله مهنا

في صبيحة اليوم التالي ، كانت العصافير تتراقص على أنغام أشعة الشمس الذهبية وهي تتهادى لوسط السماء الصافية الزرقة ، كانت الأمّهات ينتهبن الخطى نحو الحقول مع أزواجهن ، كان الأطفال يركضون وأكياس القماش المعلقة برقابهم تلوح يمنة ويسرة بإيقاع مع حركاتهم ، الكلّ يردّد أهازيج القطاف، ويغذّ السير نحو كروم الزيتون
شدّوا الهمة يا شباب هذا الموسم عا لبواب
إحنا تعبنا وألله رزقنا رزق حبابنا والغيّاب
شوسوّيتوا شوسويت سْوِيّت ربّي ربّ البيت
أنا تعبت وهيّ لقيت مين اللّي يعطيني الزيت
فاح العطر والله فاح الله يرزق هالفلاّح
فقري راح وهيّ انزاح بكره تلعلع هالأفراح
كان طريقنا يتلوى مع إبط الجبل التواء الثعبان على فريسته ، وكان صدى أهازيجنا يتردد في جنبات الوادي طبولاً تؤذن ببدء موسم القطاف ، فراحت حبّات الزيتون تتهادى مختالة بامتلائها ، متثاقلة وهي تعانق ما جاورها من أغصان وأوراق ، تترقرق على خدودها قطرات الندى مودعة وهي حزينة فرحة .
كان الحسّون يواكبنا يرفرف ويحلّق ، يتطاير متنقلاً بين أعالي الأشجار والأغصان ، كان يغنّي وينشد معنا ، قال الكثير الكثير حتى قلنا ليت النبيّ سليمان معنا !!

سررنا بهذا الفأل ........لكنه ما لبث أن انقطع صوته وغاب عن أنظارنا ، لفت ذلك انتباه أطفالنا الذين أعلمونا بأن الحسّون وقع مغشياً عليه، وبعد فترة انقلب على ظهره ، ولوّح بقدميه الصغيرتين مودعاً إياهم وفارق الحياة .
عاد الأطفال بحسرة وهم يتهامسون ، والدموع تترقرق في مآقيهم ....لقد مات الحسّون.
لم نأبه نحن الكبار للحدث كثيراً ، فالناس يموتون في بلادنا هذه الأيام بلا عداد !!

واصلنا المسير ، نشدّ على أصابعنا ، ونحفّز سواعدنا استعداداً لحصاد جهد بذلناه على مرّ أيام عام منصرم .
كان الجوّ لطيفاً ونحن نهبط باتجاه الوادي ، نسماتٌ غربية لطيفة تداعب صفحات وجوهنا ، تبعث فينا السعادة والأمل ، تبثّ فينا شعوراً بالراحة بعد عناء مشوارنا الطويل ......وصلنا الحقل ويا ليتنا لم نصله ! مناظرٌ تقشعرّ لها الأبدان ....أشجار الزيتون مقتلعة ، الأغصان محطمة ،الأرض مجرّفة بالجرارات ، وحبّات الزيتون مسروقة عن آخرها ، هاج الكبار وصرخ الصغار ، ترى من فعل هذا بأرضنا وأشجارنا ؟ تتبعنا أثر الجرار إلى أن عرفنا من هم الجناة ، إنّهم قاتلي الأمل ، وسارقي الأوطان ، شرذمة من الأوغاد تدعى المستوطنون ، فعلوا فعلتهم تحت جنح الظلام وعادوا كما تعود خفافيش الليل إلى أوكارها .......

لملمنا حطام أشجارنا ، وسوينا تراب أرضنا ، وبينما نحن كذلك صاح الأطفال : هذا بيت الحسّون ، لقد دهس الجرار فراخه !!......عندها تذكرنا وعرفنا سبب موت الحسّون الذي دفنّاه وبكيناه. عدنا إلى قريتنا بحسرتنا ، نلعق جراحنا ، بأكياس فارغة وصدورٍ ملأى بالغضب ، مكسوري الخاطر فاقدي الأمل ، ولم نجد إلا ظلال المسجد ندفن فيها رؤوسنا ونحن نلعن المستوطنين ونسأل السماء العوض .

في صبيحة اليوم التالي استيقظنا على صوت أحد شباب القرية يدعونا للتظاهر احتجاجاً على فعلة الأغراب الشنعاء ، أنهينا التظاهر باشتباك مع جيش الاحتلال ، وعدنا إلى حقل الأمس وبأيدينا فؤوسنا وغراس زيتون جديدة ، زرعناها في الحقل الذي اقتلعت أشجاره ، وعدنا إلى قريتنا يعلو هاماتنا الإصرار والتحدي ، وكان رفٌّ من الحساسين يشيّعنا من الحقل إلى بيوتنا .
21/3/2012م

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت