يا سيدي... من أي الرجال أنت/سوسن خضر النواجحة


الرجالُ صنفان، صنفٌ جاء إلى الحياة وسكن فيها، فأسكنته، وكتفت يديه، واكتفى بدور المتفرج وكان سعيداً بالمنصب رغم حرارة المشهد وشدة النيران، وجعل من الأمة مسخرة بأيدي الأعداء، وأقصى طموحها وجبة طعام مبللة بالمهانة، وحينما أزف وقت الرحيل ذهب إلى القبر دون أن يلتفت له أحد، وكأنه لم يكن، رغم أنه امتلك صحة ومال وجاه وامتيازات ما يجعله يحرك الدنيا بإصبعه، لكنه لم يحرك ساكناً ولم يصنع شئ ، ورفض التاريخ إسكانه حتى على الهامش.

وصنفٌ جاء إلى الحياة، فأغار عليها، وركل بقدميه كل امتيازاتها، ورفض بطاقة متفرج وانتزع منها بطاقة "مُحَرِك" ، وفضل السباحة في بحر العواصف رغم قسوة الجراح وقسوة الرياح، على أن ينام في حضن المذلة، فجعل من الأمة مفخرة بين الأمم، تقود الدنيا إلى بر الأمان، وترفع رأسها لتعانق عنان السماء، وجعل أيام الأمة مصنع لأحداث تفرض على البشر ألا ينسوا تاريخ ميلادها، وتجبرهم على أن يجعلوا من تاريخ ميلادها علامة فارقة في التاريخ، وتصبح في عقول الأيام يستحيل المرور عليها دون توقف، ولما اصطفاه الله ذهبت معه قلوب الأمة بحناجرها ودموعها، ووعداً بالبقاء على الطريق لا تقيل ولا تستقيل، فنال بامتياز شرف الخلود على عرش صفحات التاريخ الذي أسكنه في قلبه، واعتذر له عن تواضع المقام.

وما بين الصنف الأول والثاني تتوالد المفارقات، فما الذي جعل الصنف الأول يمتلك كل شئ، ولم يصنع شئ، وكيف صنع الصنف الثاني أشياء دون أن يمتلك شئ، إنها العقيدة والإرادة.

ففي مثل هذه الأيام كانت الدنيا على موعدٍ مع حدثٍ غير عادي، حيث بكت الأرض وبكت السماء، وتوشحت الدنيا بوشاح أسود، وفاضت الأرض من الدمع حزنا، وجرت الدموع على وجنات صبايا البلاد ونسائها، وارتفعت أكف الشيوخ إلى السماء تدعو للانتقام من الظالمين، والتهبت قلوب الشباب، وخرجت الأسود من عرينها تحمل سلاحها وتزأر، وامتلأت الساحات بجموع الغاضبين، وذبلت الزهور وهي في عمر الزهور، وتوقفت الطيور عن التحليق وتركت العنان لعيونها تذرف الدموع، وانحنت الأشجار بقامتها الطويلة، وسقطت الثمار يملئها الأسى، وعجز اللسان عن وصف الأمر بعدما ارتجفت الحروف وعجزت عن الاصطفاف في جملة واحدة، فترك الحرية للمشاعر كي تعبر بما تراه مناسب احتجاجاً على فقدان الأحبة.

إنه يوم استشهاد مؤسس حركة المقاومة الإسلامية حماس الشيخ أحمد ياسين الذي سجل اسمه بدمائه في سجلات الخالدين من البشر حيث وهب حياته لله، ، ورغم أنه لم يمتلك صحة ومال وجاه وامتيازات ولم يكن يقدر على تحريك إصبعه لأنه مقعد ومشلول، إلا أنه قرر أن يحرك الدنيا باجمعها، لأنه امتلك إرادة تستمد قوتها من عقيدة ربانية ورفض أن ينام في سرير العجز ويتغطى بأغطية التبريرات، فقام ليقاوم كل انحرافات الحياة ، فتجمع حوله ثلة من المؤمنين الصادقين، وأهلهم ليكونوا قادة المرحلة وعلمهم كيف يقولون "لا " للعدو بعدما قال الجميع "نعم ، وخاض معهم وبهم غمار معركة التحدي والبقاء مع الدنيا ليثبت أن الانسان الذي يملك عقيدة وإرادة سينتصر، فيا ليث تنجب الدنيا رجالاً بحجم احمد ياسين.
سوسن خضر النواجحة
كاتبة فلسطينية

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت