في خضم إفرازات هذه التحديات المستجدة التي يواجهها الوطن العربي، أو تلك المتراكمة عبر عشرات السنين، والتي وصلت حدود التفاقم. في اعتقادنا أن الأحداث الراهنة في سورية سوف تشكل المحور الأساسي لقمة بغداد، والتي سوف تحضرها كل الأطراف العربية التي أدانت أحداث سورية الدامية، والتي جراءها علقت عضوية القطر السوري في جامعة الدول العربية، وفرض عليه حظر إقتصادي وتجاري وسياسي، والتي تطالب أن تكون لمجلس الأمن الكلمة الفاصلة في هذه الأحداث. في اعتقادنا إن هذه القمة سوف تؤدي إلى مزيد من الإنقسام في الأوساط العربية على خلفية أحداث سورية، ولن ترأب الصدوع التي تردت في مهاويها.
في ذات السياق ولدى الرجوع إلى سجل القمم العربية، فقد كانت آخر قمة شهدها الوطن العربي، وما قبلها من قمم، لم تسفر عن أية نتائج فعلية ملموسة تطلعت إليها الجماهير العربية.
منذ تلك القمة وحتى هذه الأيام ازدادت سماء العلاقات العربية العربية تلبدا واكفهرارا، وباتت حالات الإنطواء القطري الضيق بما تختزنه من تنافر وتباعد بين الأوصال العربية ولامبالاة وعدم اكتراث في القضايا القومية حقيقة لا مجرد سحابات صيف عابرة كما يحلو للبعض أن يصورها.
حتى قمم ما قبل قمة بغداد، فإنه يمكن القول دون أدنى انحراف عن خطي الموضوعية والعقلانية، إن حظ أنجحها كان يتمثل في "بيانات الحد الأدنى من التفاهم الآني"، والإلتقاء على مفاهيم عامة ليس لها رصيد فعلي على أرض الواقع، علاوة على أنها وقفت عند حدود القضايا القومية الأكثر خطورة لاهثة عاجزة، وفي أحيان كثيرة غير مكترثة عن اقتحامها واقتلاع جذور الإنقسامات في مهدها، وبالتالي تركها تتسرطن إلى الحد الذي قد يصبح عنده الشفاء مستعصيا أو شبه مستحيل.
مع ذلك وبرغم أن سجل منجزات مجمل القمم العربية منطو على إنجازات ضحلة في غالبيتها لا تسمن ولا تغني من جوع، وأنه ما بين القمة والأخرى، كانت تحدث انتكاسات وتراجعات وإحباطات وانشقاقات وتقهقرات، مست خارطة الوطن العربي من شرقه إلى غربه ومن شماله إلى جنوبه في العديد من مقدراته السياسية والأمنية والإقتصادية والثقافية وغيرها.
كل ذلك وغيره كان يتم تحت ظلال منظومة القمم العربية وفي كنفها، برغم ذلك كله كانت هناك شرائح سياسية واجتماعية وثقافية، وحتى من الشارع السياسي العربي ما زالت تعتقد أن مؤتمرات القمة هي الآلية الوحيدة المتبقية، والأمل المعقود عليه صلاح أحوال الأمة العربية وانتشالها من هاوية الإنتكاس والتقهقر والإنكماش التي تردت فيها.
في الحقيقة إنه ما من إنسان عربي ظل مؤمنا بعروبته ويعمل من أجل رفعتها لا يتمنى لأمته العربية الخلاص والنهوض وعودة روح التضامن والتآلف بين أنظمتها السياسية. إلا أن هناك حقائق لا بد من الإشارة إليها .أولاها تتمثل في الخشية من أن تكون الأنظمة السياسية العربية قد أصبحت على قناعة براهنها القطري الضيق، وأنها بالتالي غير مستعدة للتضحية بمصالحها الخاصة في سبيل المصالح القومية التي منيت بانتكاسات خطيرة، وتراجعت إلى مراكز متأخرة جدا من الإهتمامات العربية، ووصلت بذلك إلى الحد الذي جعل هذه الأنظمة تكف يدها فعليا عنها، اللهم باستثناء المشاركات اللفظية التي ليس لها رصيد فعلي.
ثانية هذه الحقائق يمكن استقراؤها بكل جلاء ووضوح، وتتمثل على ما يبدو في أن بعض هذه الأنظمة لا تفكر في مخاطر فرقتها وانقسامها، ولا تشعر بها كونها تتفيأ ظلال "حماية مدفوعة الأجر والتكاليف" مهما كان الثمن باهظا. وكون البعض الآخر لا يملك وسائل التأثير جراء فقره أو عزلته أو احتياجه واضطراره للسكوت.
في هذا الصدد فعلى المرء أن لا يتناسى أو يتجاهل حقيقة المؤثرات والضغوطات السياسية والإقتصادية الخارجية التي تتعرض لها الأنظمة العربية إلى درجة الإذعان لها. أما الحقيقة الأخرى الأكثر مرارة تتمثل في أن القضايا القومية المقدسة فقدت بعدها القومي، وعلى ما يبدو أنها أصبحت قضايا تهم أصحابها المباشرين سواء كانت قضية فلسطين أو قضية القدس، أو أية قضايا أخرى تخص العالم العربي، كان ينظر إليها إلى عهد قريب من منظور قومي.
حقيقة أخيرة لا أخرى، فكون التفكير في الوحدة العربية بأي شكل من الأشكال، وبأي اتجاه من الإتجاهات مغيبا عن العمل والتوجه العربيين، ولا يتم تحت مظلتها، فإن جل المجهودات العربية تظل حرثا في البحر، وتكرس الإنزواء في قمقم القطرية الضيقة.
في اعتقدنا أنه لكي تنجح أية قمة يفترض أن تخلص النوايا، وأن تكون هناك إرادة حقيقية للمشاركة الفاعلة، وإصرار على تغيير الآليات والسلوكات والطروحات والرؤى العربية، بحيث تنتقل من قوقع القطرية المحلية الضيقة إلى رحاب القومية الشاسعة برؤاها ووعودها الصادقة، بدءا بإقامة جسور تفاهم وتعاون ثنائية بين كل قطر عربي وآخر، وهذه النوايا معدومة في الظروف الراهنة، وليس لها ما قد يغيرها في الأفق المنظور.
إن التجارب السابقة قد أثبتت أن معظم مؤتمرات القمة كانت تظاهرات إعلامية وذرا للرماد في العيون، وفي أحيان كثيرة عملت على عكس ما يرجى منها فزادت من مساحة الفرقة والإنقسام العربيين، وهي لم تكن حتى لتصل الى الحد الأدنى مما تتأمله الجماهير العربية.
هكذا ظلت القضايا العربية الرئيسة عالقة في الهواء تتقاذفها رياح اللامبالاة الهوجاء، والقعود غير المبرر عن تحقيقها. إن مؤتمرات القمة شأنها شأن جامعة الدول العربية التي كانت البديل المسخ عن الوحدة العربية. إن تصويرها على أنها العصا السحرية التي بلمسة منها تنهمر الحلول السحرية للواقع العربي المتردي فيه الكثير من المبالغة.
إن اخطر ما وصلت إليه مؤسسة القمة العربية أنها ظلت دون تطوير ولا تحديث . فلم تعد الجماهير العربية تشهد لها أية إضافات أو إنجازات حقيقية على المشهد العربي. على عكس ذلك تماما فإن هذه الجماهير ما فتئت تشهد "حالات حذف" وتخل عن مواقف وثوابت دون أن يكون لها بديل.
على ما يبدو أن هذه المؤسسة لا تأخذ بعين الإعتبار أنها تمثل جماهير عربية من المحيط إلى الخليج بقدر ما هي – وهذا واقعها – ممثلة لرموز أنظمة سياسية تتخبط في أجواء من الضباب والهلامية. وهي في كثير من سلوكاتها تنتهج الصيغة "التوفيقية" التي هي في الواقع تهرب سافر من حتمية إيجاد الحلول. وهي في ذات الوقت تتمثل الشرعية الدولية وتصورها وكأنها "بعبع" يتربص بها، فتحرص حتى في أمس قضاياها أن تظهر ما تسميه حالات اعتدال وعدم تطرف. وهي أخيرا لا آخرا تراعي نبض "جهات أخرى" أكثر بكثير مما تراعي نبض جماهيرها والإرتفاع إلى سقف مطالبها ورغباتها.
كلمة أخيرة لا بد منها. ليست القمة غاية في حد ذاتها. إنما يفترض بها أن تكون وسيلة أو آلية فاعلة لتحقيق غايات وأهداف منها ما ورثته الأمة العربية عن السلف الصالح من أبنائها يتمثل في الوحدة الكبرى والتكاتف والتآلف، ومنها ما أملته الظروف الراهنة والتحديات التي لا تقف عند حد ولا يبدو أن لها نهاية في الأفق المنظور.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت