سجلت الحالة الفلسطينية الكثير من القصص والأحداث الوطنية والإنسانية الرائعة ، قصص وأحداث تصلح لأن تكون حلقات لمسلسل يُجسد الواقع الفلسطيني ورحلة النضال والشتات الطويلة منذ النكبة العربية الكبرى( نكبة فلسطين ) عام 1948م .
وكان للجوء الفلسطيني في المنافي والشتات الجزء الأكبر في هذه القصص التي تكون في غالبيتها حزينة ومؤلمة ، نظراً لتفاصيلها التي لا يستطيع أن يقف أمامها أي إنسان إلا وأن يبكي كالأطفال ، فكم كانت مخيمات لبنان شاهدة على قصص الغربة والحرمان ، وكم ساهمت الهجرات المتكررة لشعبنا في تشتيت أفراد الأسرة الواحدة ، وقد عشنا آخر الهجرات في العراق حين تم تهجير أبناء شعبنا المقيمين فيه إلى دول أوروبا حيث تفرق الأب عن أبناءه ، أو الأم عن أبناءها والأشقاء عن بعضهم .
سأكتب اليوم عن قصة عشتها وأعيشها شخصياً ، حيث الإيمان بأن القدر وإرادة الله هي الشيء الوحيد الذي يجب أن نؤمن به ، ولأن فلسطين تعيش المأساة فهي أيضا تعيش أحياناً لحظات جميلة وسعيدة عندما تلم شمل عائلة مع بعضها أو أصدقاء النضال والشباب .
قصتنا أبطالها ثلاثة ، أحدهم هو والدي صادق علي شاهين ، والآخر كمال يوسف شاهين ، وهو ابن عمومتي ، وصديقنا العائد إلى غزة المناضل زهدي العدوي ( أبو سمير ) ، ابن مخيم النصيرات ، حيث بدأت القصة عندما زارنا ابن عمومتنا كمال يرافقه شخص في أواخر الخمسينات من العمر ، بدت عليه علامات الشوق والحنين حين التقى مع والدي بلحظة مؤثرة مع العناق في دلالة على مرور سنوات طويلة لعدم لقاء الاثنين وجهاً لوجه .
مع حضوري للسلام على الضيوف علمت بالقصة ، وهي أن المناضل والفنان الفلسطيني زهدي العدوي ، عاد إلى غزة قبل أيام ، بعد غياب دام 40 أربعون عاماً ... أربعين عاماً هي رحلة الشتات التي بدأت في فبراير عام 1970م ، حين ودع غزة ... ففي ليلة من ليالي فبراير كان ثلاثتهم يجلسون في بيتنا الصغير بمخيم الشاطئ ، وكانت جدتي قد أعدت لهم طعام العشاء وهو عبارة عن علبة لحمة وقلاية بندورة ، وهي من الأكلات المفضلة لدى أهل غزة .
كان كلاً من زهدي العدوي وكمال شاهين ، من عناصر الجبهة الشعبية ، وكانوا مطلوبان لقوات الاحتلال الإسرائيلي التي حاصرت مخيم الشاطئ ، هذا المخيم الذي كان ولازال مدرسة للمناضلين ، فقامت قوات الاحتلال بمحاصرة منزلنا بحثاً عن المطلوبين ، إلا أن قدر الله جعلهم يفلتون من قبضة الاحتلال .
غادر الاثنين إلى الضفة الفلسطينية ، وهناك تم القبض عليهم في منطقة طولكرم ، فحكم عليهم بالسجن المؤبد ، قضوا منها ما يقارب 15 عام ، فخرج كمال شاهين إلى غزة ، وخرج زهدي العدوي إلى الشتات ليلتحق بالثورة الفلسطينية ويستقر في سوريا .
عاش العدوي في مخيم اليرموك ولازال ، وتزوج من سيدة فلسطينية من مواليد لبنان ، وأنجب منها 4 أبناء ، وهو فنان تشكيلي له الكثير من الأعمال التي شارك بها في معارض في أوروبا ودول عديدة ، وكان إلى جانب عملة الفني وإبداعه ، مناضلاً في صفوف الجبهة الشعبية ، حاملاً فلسطين في ذاكرته ولازالت صورة غزة متجذرة في وجدانه .
كباقي أبناء شعبنا الفلسطيني ، ظل حلم العودة للوطن يراود زهدي العدوي ، لكن الاحتلال الإسرائيلي ظل يمارس سياسة الإبعاد والمنع والقيود على أبناء شعبنا ، خاصة أولئك الموجودين في مخيمات لبنان وسوريا ، فكانوا ممنوعين حتى من زيارة فلسطين بتصريح زيارة .
قبل شهر تقريباً زار غزة القيادي في الجبهة الشعبية ماهر الطاهر ، فحضر معه زهدي العدوي ، وغادر الطاهر وظل العدوي حتى يزور بيته في مخيم النصيرات ، ويجتمع مع عائلته وإخوته ، هذا الحلم الذي لم يصدقه العدوي حتى اليوم ، فلم يكن يتصور في يوم أن يعود إلى غزة بطريق الصدفة ، ولم يتصور في يوم من الأيام أنه سيلتقي مع إخوته وعائلته وأصدقاء الطفولة والشباب ، ويستعيد معهم ذكريات من أهم المراحل التي عاشتها القضية الفلسطينية ، وهي نضال المخيمات في وجه مشروع شارون التوسعي الذي كان يهدف لهدم المخيمات وعلى رأسها مخيم الشاطئ .
قصة زهدي العدوي هي واحدة من آلاف القصص التي رأيناها منذ العام 1994م ، حين عادت قوافل المناضلين وعلى رأسهم الشهيد الخالد ياسر عرفات ، عندما احتضنت فلسطين وغزة أبناء شعبنا وعائلاتهم في صورة أبكت العالم اجمع وأعادت من جديد روح النضال انطلاقاً من الأرض الفلسطينية نحو تعميق وترسيخ حلم العودة الذي لا يمكن أن يتم التفريط به .
لقد كانت غزة ولازالت نقطة البداية ، وعي نقطة الارتكاز الأولى والأخيرة ، فلا يمكن أن تكون غزة يوماً ما على الهامش ، فلم تستطيع إسرائيل بقوتها أن تجعل البحر يبتلع غزة ، ولم تستطيع كُل طائراتها وقذائفها أن تقضي على صمود أبناءها وأطفالها ، فهي العنوان الأول والأخير ، وهي البوصلة التي تتجه إلى القدس عاصمة فلسطين كما كان يردد الشهيد الخالد ياسر عرفات ، رحمه الله .
&&&&&&&&&
* إعلامي وكاتب فلسطيني – غـزة
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت