تأملات في واقع المقاومة الفلسطينية (الحلقة الرابعة)

بقلم: مصطفى إنشاصي


مشهدان حدثا في ذكرى يوم الأرض زادا قناعتي بأنه إذا أرادت الأمة تحرير فلسطين يجب على جميع الفصائل والحكومات الفلسطينية وديكوراتها (المعارضة) أن ترحل عن حياتنا! المشهد الأول أن يوم الأرض هذا العام لم يكن كما كان يوم اجماع ووحدة لكل القوى الفلسطينية والعربية يُذكر العالم بأن شعب يناضل لتحرير أرضه المغتصبة ولكنه كان أصدق تعبير عن الواقع الفلسطيني والعربي الممزق فقد تعددت الدعوات الفصائلية لإحيائه ولم تتوحد المسيرات تحت راية أو في مسيرة واحدة وذلك دليل عدم أهليتها لتكون طليعة أو رأس حربة في معركة التحرير! والمشهد الثاني أن السلطتان الفلسطينيتان الرازحتان تحت الاحتلال المختلفة كلمتهما منذ خمس سنوات اجتمعت هراوات وعصي أشاوسهما مع رصاص العدو الصهيوني لتفريق مسيرات إحياء ذكرى يوم الأرض الذي لم تشارك في إحيائه هذا العام بعض الفصائل!.

أما الخبر الذي له علاقة بموضوعنا ومهم الانتباه لأبعاده الخطيرة على مستقبل الحياة الزراعية ومساحة قطاع غزة: أن طائرات الاحتلال الصهيوني القت الاثنين 2/4/2012 مئات المنشورات تحذر فيها الفلسطينيين من دخول المناطق العازلة بمحاذاة الحدود الشرقية جنوب قطاع لمسافة 300م من السياج مؤكدة أن "البيان بمثابة إنذار يسمح لها بالعمل ضد كل من يقترب من تلك المنطقة"! المعنى أن جيش العدوان الصهيوني أضاف إلى المساحة التي سبق أن اقتطعها من الأراضي الزراعية في غزة وحولها لمناطق حدودية فاصلة لمنع إطلاق الصواريخ التي ذكرناها في الحلقة الأولى وتُشكل 35% من الأراضي الزراعية و17% من اجمالي مساحة قطاع غزة مساحة 300م بطول الحدود لتوسيع المناطق العازلة!.
جمود في تكتيكات حرب العصابات
أوضحنا في الحلقة الماضية أهمية تطوير وتجديد أساليب قتال حركات التحرر وعدم الجمود على أسلوب واحد أو أساليب بعينها، وأهمية ذلك أكثر للمقاومة في فلسطين لخصوصية فلسطين كـ"قضية مركزية للأمة" وأن دور المقاومة فيها أنها طليعة الأمة ورأس حربتها ضد عدوها المركزي. لذلك وانسجاماً مع هذه الرؤية فإن موقفي من إطلاق الصواريخ منذ ثلاثين سنة لم يتغير، وقد توجهت بالنصح به للإخوة في حماس بعد قرار العدو الصهيوني فك الارتباط مع غزة من طرف واحد عام 2005 يوم كنت أتعاون معهم إعلامياً وكررته لهم مرات بعد خروجه من غزة، وفي الذكرى الثالثة والأربعون لانطلاقة حركة فتح نشرت سلسلة حلقات ألقيت من خلالها الضوء بأسلوب مكثف على تجربة فتح ومنظمة التحرير لتفادي تكرار نفس الأخطاء ختمتها بتاريخ 23/2/2008 بحلقة بعنوان "المقاومة لخدمة مشروع نهضة الأمة"، نصها:
في الذكرى الثالثة والأربعون لانطلاقة حركة فتح فشلنا في الحفاظ على حضور وترتيب فلسطين كقضية شعب ينشد التحرر وحق تقرير المصير في سلم الأولويات العربية قبل الدولية، وضاعت إنجازات الجماهير ومعاناة وتضحيات عشرات السنين في صراع بين نهجين وبرنامجين متناقضين، كلاهما لم يعد يخدم مصلحة الجماهير وقضية الأمة ومشروع نهضتها ووحدتها! برنامج نهجه التفاوض إلى ما لانهاية للحصول على دولة فلسطينية حتى وإن كانت معازل لا يملك فيها السكان حق تقرير المصير أو حرية التنقل والاتصال بالعالم الخارجي إلا عبر معابر وأنفاق يسيطر ويتحكم بها العدو الصهيوني! وبرنامج لم يَعُد يفقه من أساليب حرب العصابات إلا إطلاق الصواريخ متجاهلاً التغيرات التي حدثت على جغرافية وميدان الصراع في غزة وما تتطلبه من ابتكار لأساليب حرب عصابات تعتمد على الاقتراب من العدو وتحقيق عنصر المفاجأة. ومتجاهلاً ما حدث في الواقع السياسي والجغرافي الفلسطيني من انقسام وقطيعة وما يُحدثه ذلك من تغيرات في الواقع والتاريخ الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والنضالي والوحدوي ...إلخ الفلسطيني يهدد وجودنا كقضية وشعب ووحدة جغرافية، وأن عدم إنهاء تلك الحالة سيمكن العدو من تحقيق أحد أهدافه من فك الارتباط مع غزة من طرف واحد وهو: تكريس الانقسام بين غزة والضفة جغرافياً وسكانياً في حياتنا وواقعنا، وطبعاً تمتد الحالة إلى فلسطيني الشتات في كل مكان، وسيمكنه من تغيير معالم التاريخ والجغرافية والهوية الحضارية والثقافية للأرض وتكريس وقائع جغرافية وثقافية جديدة لصالح المشروع اليهودي في فلسطيننا.

أضف إلى ذلك تجاهله حجم التضحيات والدماء التي تُسفك رداً على صواريخه بما يخالف القاعدة الشرعية التي تقول: درء المفاسد مقدم على جلب المنافع! ولا يبالي بالحصار والإغلاق المفروض على سكان قطاع غزة لا حكومة حماس وما يسببه من معاناة وجوع ومرض ونقص حاد في الأدوية وانعدام إمكانيات علاج كثير من الأمراض ووفاة كثير من الحالات وارتفاع معدل الفقر وانتشار كثير من الأمراض الاجتماعية والأخلاقية التي تهدد النسيج الاجتماعي لمجتمع الصمود والمقاومة الفلسطيني، وما أدى إليه من تراجع كثير من القيم الأصيلة التي حافظت على تماسك المجتمع وأفشلت مخططات الاحتلال لتفكيكه وتدميره ولعبت الدور الأكبر في دعم الانتفاضتين اللتين هزتا العالم وقدمت نماذج فذة وسطرت ملحمة إنسانية عظيمة في التضحية والفداء ودعم المقاومة باختيارها لا دعم العاجز عن تغيير الواقع كما هو اليوم!.

موقفي من الصواريخ ثابت منذ أكثر من ثلاثين عاماً وقد سبق أن اتخذته أيام الثورة الفلسطينية وتواجدنا في لبنان وبعد خروجنا منه، فقد كان من ضمن ما أخذته على الثورة على الصعيد العسكري ركونها إلى امتلاكها بعض الأسلحة الثقيلة من مدفعية وصواريخ ودبابات وغيرها من الأسلحة التي ساعدتها على قصف مواقع العدو من مسافات بعيدة. لأن ذلك كان له آثار ذات أبعاد خطيرة على نفسية وعقلية المناضل وحياته وواقعه الاجتماعي ومستقبل النضال والثورة السياسي والعسكري وكان أحد أهم الأسباب التي أدت إلى عدم ثبات المقاتلين لمواجهة الاجتياح الصهيوني للبنان عام 1982 وخروج الثورة من لبنان. فقد تسبب ذلك في ركون المناضلين إلى وهم قوتهم العسكرية وإمكانية الرد على العدو من الأراضي اللبنانية إلى عمقه الجغرافي والسكاني (الأراضي المحتلة عام 1948)، وتخيلوا أنهم بذلك أصبحوا نداً للعدو عسكرياً وأنهم حققوا توازن الرعب والردع العسكري معه. فقد ركن المناضلون للاستقرار الأسري والاجتماعي وحرص المسئولين على تنمية مكاسبهم التي حقوقها من وراء الجمود في حركتهم النضالية، كما أدى الهدوء وروتين حياة القواعد الحراسة ليلاً والانتشار نهاراً وحياة المكاتب الأكثر رتابة وروتينية وهدوء بالمناضلين إلى فقدانهم لنقائهم الثوري وروح ونفسية وحياة الثوار الحقيقية! وسبق أن صدمتهم في أحد الحوارات: بأن الثورة قوة مالية ضخمة ولديها ميزانيتها تفوق ميزانية دول ولكنها ليست كقوة عسكرية قادرة على مواجهة أي ضربة حقيقية يستهدف العدو منها تدميرها والقضاء عليها وذلك قبل شهور قليلة من العدوان على لبنان عام 1982 وخروجنا منه!.

كما عُدت وأكدت نفس موقفي من أساليب حرب العصابات التي على أي حركة تحرر ومقاومة استخدامها ويجب أن تكون هي الأصل في مقاومتها وخاصة في فلسطين في إحدى الدورات العسكرية بإحدى مدارس القتال بالجزائر حيث كنا نأخذ دورة رشاشات مضادة للطيران وكانت مدتها أربعة أشهر وقد تزامنت مع دورة على صاروخ مضاد للطيران مدتها عام ونصف، ولأن الضابط المشرف على الدورة كان يخطط لمستقبله الشخصي لا الوطني فقد أراد أن يمدد دورتنا إلى عام ونصف ليتمكن من المشاركة في تلك الدورة. وما أن علمت بذلك حتى قمت بحملة تحريض ضد تلك الفكرة التي كان يرفضها آخرين مثلي، وبعد أيام من النقاش بين رافض ومؤيد جلسنا الجلسة الأخير للتصويت والأخذ برأي الأغلبية، وقد فوضني الرافضين للفكرة بالحديث فلخصت مأخذي السابق على الثورة أيام لبنان في الآتي:
نحن ثورة ضد عدو محتل غاصب لوطننا؛ ولأن المحتل لن يُعطي أو يتنازل عن حق اغتصبه بسهولة فإنه يجب على صاحب الحق أن يذهب بنفسه إلى المحتل ليطالب بحقه، أي علينا نحن كثوار أن نذهب إلى العدو ولا ننتظر حضوره إلينا! ومنذ أن امتلكنا مدفعية وصواريخ ودبابات تكاسلنا وتواكلنا وكادت تنعدم عملياتنا العسكرية المباشرة ضد المحتل الذي يقتلنا بقصفنا بطيرانه وإنزالاته (كان ينزل بعض مجموعاته الخاصة عبر البحر لتقطع الطرق ليلاً وتقتل من يمر عليها أو تهاجم بعض المواقع في غفلة من الحراسة) التي يحقق بها عنصر المفاجأة فيقتل ويذبح ويعود في معظم المرات آمناً ونحن ليس لدينا إلا تلك الأسلحة للرد على قصف طيرانه، أي أصبح المحتل هو الذي يأتينا فلم نعد ثوار حقيقيين، لذلك علينا نحن أن نذهب إليه في وطننا المحتل وأن نحقق نحن عنصر المفاجأة له وأن نقلق منامه وراحته ليلاً وعمله نهاراَ، ولكي نحقق ذلك علينا أن نكون ثوار حقيقيين نمارس أساليب حرب العصابات الحقيقية، وعليه فإن أفضل سلاح للثائر هو الكلاشنكوف والـ بي7 ومضادات الدروع والقنابل اليدوية واللغم وغيرها من الأسلحة الخفيفة التي تساعد الثائر على سرعة الحركة والتنقل وتحقيق عنصر المفاجأة للعدو وإيقاع أكبر الخسائر الجسدية والمادية فيه. وإذا كنا حضرنا لهذه الدورة التي لا تصلح لحرب العصابات فقد أتيناها من منطلق كسر الجنرال مَلَل الذي أراد أن يقتلنا به شارون عندما أخرجنا من لبنان إلى المنافي كما قال. وما أن فُتح باب التصويت حتى كانت الغالبية مع رأيّ.

كما نصحت به الإخوة في حماس قبل خروج العدو من غزة، وقلت: إن طبيعة المعركة والاحتكاك بالعدو الصهيوني ومواقع تواجده قد تغيرت كثيراً بعد خروجه من غزة وتغيرت معها جغرافية الصراع وميدانه وذلك يفرض على المقاومة أن تغيير أساليبها القتالية، وأن عليهم تقليل إطلاق الصواريخ التي تكلف أهلنا الكثير من الدماء لأن فعالية وأهمية إطلاقها قبل خروج العدو من غزة كانت تكمن في أنها تُطلق من وسط دبابات جيشه وجنوده ولا يستطيع منعها فما جدوى بقائه بعد أن فقد السيطرة على الأرض وعلى الشعب؟! وأن عليهم استخدام أساليب حرب عصابات تعتمد على الوصول للعدو في الأراضي المحتلة 1948، مثل: التركيز على العمليات الاستشهادية والأنفاق وإن كان على تباعد لصعوبة الأوضاع بعد خروجه من غزة وتوقف الانتفاضة في الضفة، وكذلك عليهم إرسال مجموعات قتالية خفيفة التسليح وسريعة الحركة للتعايش خلف خطوط العدو تقوم بعملية الرصد لقواته ودورياته وتكمن له وتضرب ضربتها بسرعة وخفة وتنسحب إلى نقطة بعيدة قبل وصول التعزيزات، أو تعتمد أسلوب زرع الألغام والانسحاب وهكذا إلى أن يستشهدوا أو يعودوا بعد فترة إلى قواعدهم سالمين، وغيرها من الأساليب بحسب إمكانيات المقاومة وقدراتها.

كما عُدت وأكدت لهم على ما سبق بعد شهرين من خروج العدو من غزة وإعلان شارون في خطابه في الأمم المتحدة في ذكرى تأسيسها الستين في أيلول/سبتمبر 2005 على مرأى ومسمع من العالم: "لقد تنازلنا عن جزء عزيزة من أرض (إسرائيل) لجيراننا الفلسطينيين ليقيموا عليها دولة لهم من أجل أن نعيش معاً بسلام! وذكرت بما كتبته في البحث الذي اطلعوا عليه بأن هدف فك العدو ارتباطه مع غزة هو القضاء على المقاومة وجعل غزة مقبرة للدولة الفلسطينية، وبعد إعلان شارون أنه أقام لنا دولة في غزة فإن إطلاق الصواريخ سيجعل منا (إرهابيين) في نظر العالم وكأننا دولة مقابل دولة وليس أننا مازلنا محتلين. ولكن بدون جدوى!
التاريخ: 8/4/2012
مصطفى إنشاصي

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت