عش الدبابير/عصمت عبد الخالق


اثارتني اجابة الرئيس الفلسطيني محمود عباس على صحافية يابانية عند سؤالها لسيادته عن مواصفات القائد الذي سيخلفه في قيادة السلطة و التي كانت على النحو التالي "أنا لم اغير رأيي بأنني لن اترشح للانتخابات مرة اخرى و المواصفات المطلوبة بالقائد الذي سيخلفني هو ان يكون ديمقراطي يؤمن بالإنتخابات و حق الاقتراع و التعدُدية و ان يرشح نفسه و يفوز بواسطة الناخبين و من سيحصل على الغالبية سيكون هو الرئيس بكل ديمقراطية". اجابة افلاطونية تصدر الى الخارج تعطي تصورا للعالم بأننا نعيش في واقع ديمقراطي حر و نسبح في فضاء حريات لم تنعم بها اليابان ذاتها، و ان من سيخلف الرئيس محمود عباس سيرث تركة من الديمقراطية ولكن شرط حصوله على التركة هو مروره عبر صندوق الاقتراع.

في ذات الوقت الذي لا زلت التعافى من تجربة مريرة قضيتها في سجون السلطة مدة ثمانية ايام كدت افقد بها حياتي وان كنت قد فقدت جزء هاما منها نتيجة اغضابي لأحد الاجهزة الامنية بوصفي النظام السياسي الفلسطيني بالفاشي في صفحتي على موقع التواصل الالكتروني، رغم انني لم اقصد بوصفي الاساءة الى شخص الرئيس الكريم انما ايماني كـ اعلامية متخصصة بالشأن السياسي و كـ أستاذة للعلوم السياسية ان الفاشية بالمفهوم السياسي تعني الشمولية. و رغم ادراكي ان مصطلح الفاشية يثير الكثير من الاعتراضات على الرغم من الاتفاق العام على محتواه بالمفهوم السياسي و خاصة عندما يتعلق الامر ببلدان العالم الثالثة المتخلفة و البلدان العربية التي كنا و مازلنا جزءً لا يتجزأ من موروثها. و الشمولية بقصدي في مشهدنا الفلسطيني الداخلي و تحديدا في النظام السياسي القائم في الضفة الغربية في السنوات الخمس الاخيرة تعني الهيمنة التسلّطية على المجتمع الفلسطيني و انتزاع حقه في حكم نفسه و الاستئثار به بدون وجه حق او سند قانوني او اخلاقي او سياسي و ليس هذا وحسب بل اصبح يشكل الهاجس الامني فيها المحور الاساسي للسياسة الداخلية و حتى الخارجية الى حد كبير و الاداة الرئيسية التي يتحكم بها و عبرها، الامر الذي ادى الى التهام دور مجتمعنا بكافة اطيافه من مواطنين و حريات و مجتمع مدني و غيره من مقومات و اسس الدولة التي طالما راهن دولة رئيس الوزراء د.سلام فياض واهمها انه قطع شوطاً كبيراً من بناء و تعزيز تلك المقومات و توطيد قواعدها و اسسها. فالترسيمة المغلقة لبعض الفئات و تحديدا حركة فتح في الضفة التي تدير مقاليد السلطة والحكم تؤشر على احتمالية الدقة في رؤيتي و طرحي، فحين تكون الايدولوجيات في المنطلق و المعيار بحيث ينفرد حزب او تنظيم في ادارة شؤون العامة وفق رؤى و خطط يجب ان تتشكل على صورتها و مثالها و يضفي القدسية على حملتها و خاصة القياديين منها الذين يتحولون الى كائنات فوق بشرية، معصومة و طهورة، لا يجوز المس بها و انتقادها في اي ظرف او حال، و فعل ذلك يعتبر تجاوزا لكل الخطوط الحمراء التي رسمها ابطال الايدويولوجيا و حرس مرمهاها جنودهم. و تجربتي الاخيرة و آخرون تشير اننا ربما اقتربنا من هذه الخطوط دون المساس بها فلا احد يسمح له بتجاوزها. و اذا الزمنا نحن الصحفيين بتقديم الدلائل و البراهين لحجتنا او رؤيتنا بعد تجربة حبس الزميل يوسف الشايب لامتناعه عن تقديم دلائله و براهينيه في تقريره الذي اثاره في صحيفة اردنية حول فساد في السفارة الفلسطينية في باريس فانني التزم بهذا المطلب خشية من حبس جديد "رغم ان حقبتي جاهزة"

و اشير الى بعض الاحداث التي تشكل مؤشرا خطيرا علينا جميعا ان نتوقف لنسائل و نحاسب و نراجع انفسنا و النظام السياسي القائم عن دلالات تلك الاحداث و نتائجها على قضيتنا التي تشهد مؤخرا تراجعا ملموسا على المستوى الاقليمي و الدولي ليس فقط على الصعيد الاعلامي انما على صعيد البرنامج السياسي و الاقتصادي لدول العالم اجمع. ان ما كتبه ديفيد كيز في صحيفة الواشنطون بوست"كبرياء ابو مازن" يعتبر تحرضا للعالم الذي اتهمهبالصمت على توقيف الاعلاميين الفلسطينيين دون وجه حق من قبل السلطة الوطنية الفلسطينية، بل اكثر من ذلك، ففيه اتهام واضح و صريح للنظام السياسي الفلسطيني في الضفة الغربية باستخدامه الارهاب و القمع لمواطنيه. و قد تزامنت احداث القمع لحرية الرأي و التعبير و سياسة تكميم الافواه من قبل المنظومة الامنية و النيابية و العدلية مع استطلاع الرأي الامريكي ان فلسطين و العراق آخر بلدين في العالم ينعمان بالحريات و تحديدا حرية الرأي و التعبير، و أخطر من ذلك، فان اغلاق مؤسسة راصد الحقوقية من قبل وزير الداخلية بطلب من وزير الخارجية دون تشكيل لجنة تحقيق في الازمة بين سفارتنا في بيروت و مؤسسة راصد التي تعنى بحقوق الانسان و عرض نتائج التحقيق للعامة لتقديم مبرر لاغلاق مؤسسة حقوقية هامة، و هذه ثاني ازمة تعيشها سفاراتنا في الخارج التي اصبحت تثير المتاعب و التساؤلات دون محاولة من الجهات المسؤولة للبحث عن الحقيقة و كشف ملابساتها. كل ذلك و غير من المؤشرات كالتوقيف السياسي و الامني و سياسة الموافقة الامنية على التعيينات في السلطة، و تعسف بعض المسؤولين في استخدام سلطاتهم سواء لصالح جهة داعمة او لمآرب و خلافات شخصية، و فساد بعض المسؤولين دون حساب او عقاب يؤكد ان الانتخابات التي ستفرز لنا الرئيس القادم الذي سيخلف الرئيس محمود عباس ليس وحدها المؤشر على ديمقراطيته، و ان ما تفرزه الانتخابات من نتائج لم تعطي الحق للناجح الجديد بعرض نفسه على انه صاحب السلطة و لا سلطة لغيره، فالانتخابات ليست الا صورة خارجية للممارسة الديمقراطية، و ان جوهر الديمقراطية اعمق من ذلك و اكبر دليل واقع الحال الذي نعيشه في وطننا رغم ان رئيسنا محمود عباس كان نتيجة لعملية انتخابية شهدتها الاراضي الفلسطينية عام 2005. الامر الذي يستوجب علينا كـ فلسطينين استخلاص العبر من وهم الديمقراطية الزائف الذي يتناقض مع واقع الحال. ولكن رب ضارة نافعة تمكننا من الوعي بحقائق الامور و مجرياتها، و العمل بشراكة جادة و مسؤولة لمواجهة كل الممارسات التي تشوه تاريخنا ووطننا و تحرفنا عن المسار، رغم ايماني المطلق و نتاج تجربة شخصية مؤلمة ان هذه الممارسات القمعية لن تؤدي ثمارها، بل ستعمل جاهدة على ايقاظ عش من الدبابير.
الاعلامية عصمت عبد الخالق

15/4/2012

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت