إن من أحسن ردود الفعل، على الحرب العالمية الشعواء التي تقوم بها إسرائيل ولوبياتها في العالم ضد الكاتب الألماني "غينتر غراس" -82 عاماً- والحاصل على جائزة نوبل للسلام عام 1999، جاء من اتحاد كتاب ألمانيا، وسط انتقادات لقرار حكومة "نتنياهو" التي أعلن عنها وزير داخليته "ايلي يشاي" بمنع دخول الأديب "غينتر غراس" إلى إسرائيل على خلفية قصيدته التي تحمل عنوان "أشياء يجب أن تُقال"، واعتباره شخصية غير مرغوب بها، والمطالبة بسحب جائزة نوبل منه، مما أدى إلى ارتفاع الأصوات في ألمانيا مرحبة بانتقادات "غراس" لإسرائيل، معتبرة قصيدته مساهمة قيّمة في الجدل العام، لجر الترسانة النووية الإسرائيلية إلى دائرة الضوء، وإبراز المخاطر العسكرية والاقتصادية لأي مواجهة عسكرية تقوم بها إسرائيل ضد إيران، حرب من شأنها جر كل العالم إلى الهاوية، حتى أن الحزب الديمقراطي الألماني انتقد الحملة على الأديب "غراس" وعلى القرار الإسرائيلي باعتباره شخصية غير مرغوب بها في إسرائيل، يُذكر أن هناك دولتين حظرتا في الماضي على "غراس" دخول أراضيهما بسبب مواقفه الشجاعة وهما: بورما، وألمانيا الشرقية، هاتان الدولتان اللتان كانتا تحكمان بالدكتاتورية، وأصبحت إسرائيل الدولة الثالثة التي تمنعه من دخول أراضيها، وبذلك انضمت إلى الدكتاتوريتين السابقتين.
"غراس" في قصيدته اعتبر أن النووي الإسرائيلي، وليس الإيراني، هو الذي يُشكل خطراً على السلام العالمي كله، موجهاً الدعوة إلى بلده ألمانيا، بالتوقف عن تزويد إسرائيل بالغواصات التي تعمل على تسليحها بالصواريخ النووية، ووقف تقديم المساعدات العسكرية والاقتصادية لإسرائيل، وحذر "غراس" في قصيدته من إبادة الشعب الإيراني من قبل إسرائيل، موضحاً أن لإسرائيل قوة نووية تُشكل خطراً على السلام العالمي الهش، وهذه القوة سرية وخارجة عن نطاق الرقابة الدولية- والكلام لـ"غراس"- كما تضمنت قصيدته شجب للتهديدات الإسرائيلية بشن ضربات وقائية ضد إيران، والتي إن حصلت ستثير مخاوف لدى دول الغرب، وقد تؤدي إلى القضاء على الشعب الإيراني حسب قصيدته فقط للاشتباه بأن قادة إيران يصنعون قنبلة ذرية، والجديد بالأمر أن اتهام إسرائيل بتهديد السلام العالمي يأتي هذه المرة، ليس فقط من قبل ألمانيا، بل من قبل الغرب قاطبة، بما في ذلك الولايات المتحدة.
في السنوات الأخيرة، ازدادت الأصوات في الغرب التي تٌندد بالسياسات الإسرائيلية، وبدأت هذه الأصوات لا تخشى من التهمة الجاهزة لدى إسرائيل، بأنهم معادون للسامية، فقد سبق "غراس" في توجيه الانتقادات اللاذعة لإسرائيل، الأديب الكبير "سرماغو" الذي فتح فمه في آخر أيام حياته ضد إسرائيل، في أعقاب زيارته للأراضي المحتلة، مشبها ما يجري فيها ضد الفلسطينيين من قبل إسرائيل بمعسكرات "اوشفيتس" أي معسكرات الإبادة في العهد الألماني النازي.
دعاة السلام أعربوا عن تأييدهم للكاتب "غراس" أثناء التظاهرات التي تنظم سنوياً بمناسبة عيد الفصح في مختلف أنحاء ألمانيا في أعقاب قصيدته، حيث نُظمت في ألمانيا (70) مسيرة، ذات طابع ديني، أو من أجل السلام، وتضمنت ردود الفعل، آراء سياسية تنتقد ممارسة الاحتلال الإسرائيلي الجائر ضد الفلسطينيين، ومصادرة أراضيهم، وتوسيع الاستيطان.
"غراس" في قصيدته، لم ير بإيران خطراً على السلام العالمي كإسرائيل، وهذا زاد من الغضب الإسرائيلي، وللتذكير فقد أجرت منظمات عالمية قبل سنوات، استطلاعاً شمل (70) دولة من دول العالم، كانت نتائجه بأن إسرائيل وإيران تشكلان خطراً على السلام العالمي، أي أن هذا الاتهام ضد إسرائيل سبق قصيدة "غراس".
الأديب "غراس" تلقى أعداداً كبيرة من الرسائل الإلكترونية الداعمة لموقفه ووجهة نظره، بينما الذين قاموا بانتقاده لم يفندوا شيئاً من الوقائع التي ذكرها في قصيدته، كما أن أحدا من منتقديه لم ينف أن إسرائيل تتحمل مثلها مثل إيران مسؤولية اندلاع أي حرب بينهما، كما أن الولايات المتحدة والدول الغربية، غير مقتنعين بحجج إسرائيل لشن حرب وقائية، ولم يفلت "غراس" من اتهامه باللاسامية، والعداء للسامية، لكن رئيس أكاديمية الفنون الجميلة الألمانية دافع عن "غراس" قائلاً:" من حقه كأديب قول ما يراه صحيحاً دون أن يُتهم بالعداء لإسرائيل، وأن وصم "غراس" بختم اللاسامية بهذه السرعة أمر غير مقبول.
غير أن المنسجمين مع أقوال "غراس" بصورة مباشرة أو غير مباشرة، كان بينهم رئيس الموساد الإسرائيلي السابق "مائير دغان"، ففي مقابلة له مع جريدة الجروساليم بوست الإسرائيلية 8-4-2012، اعتبر أن النظام السياسي في إسرائيل، ُيشكل أكثر خطورة عليها من التهديد النووي الإيراني، كما أن مهندساً إسرائيلياً مشهوراً -"تسفي الحياتي" المحاضر السابق في كلية الفنون الإسرائيلية، هذا المهندس الذي سبق أن كتب في موقعه على شبكة الفيسبوك :"الموت للمستوطنين"- وصف أعضاء اليمين الإسرائيلي بالنازيين والإرهابيين، حيث أطلق عليهم لقب "النازيين الجدد" كذلك مثل هذه الأصوات الإسرائيلية، صدرت عن الكثيرين. واتهم الصحفي الإسرائيلي المعروف "جدعون ليفي" في جريدة "هآرتس 8-4-2012"، ردود الفعل الغاضبة على قصيدة "غراس" بأنها مصابة بفقدان التناسب، وأنه يجوز لـ "غراس" بل يجب أن يقول بأن سياسة إسرائيل تعرض سلام العالم للخطر، ففي استطلاع لصحيفة "فايننشال تايمز" واسعة الانتشار، أجاب 50% من قراء طبعة الجريدة باللغة الألمانية، أنهم يعتقدون مثل الأديب "غراس"، وفُسرت نتائج هذا الاستطلاع، بأن الجريمة الإسرائيلية بحق إيران، إن حدثت، فإنها ستغطي على جرائم النازية ضد اليهود.
وخلاصة القول، وبدلاً من أن تستمع القيادة الإسرائيلية لهذه الأفكار والنصائح، تقوم بمعاداتهم وشن الهجوم عليهم ولا تكترث لانتقاداتهم، إذ أن معظم ما يكتبه الأدباء، يتحول سريعاً ليحظى بتأييد سياسي واسع، أما مراسل جريدة "معاريف 9-4-2012" في ألمانيا يؤاف سيبير فقد كتب في جريدته أن ما كتبه غراس يفكر به ويحسه معظم الجمهور الألماني منذ سنوات طويلة.
إن أهم ما يُستخلص في موضوع غراس أن أقواله انطلقت من ألمانيا بالذات، كما أنه لم يتراجع رغم الضغوط التي تعرض لها بل صعّد من هجمته على إسرائيل، ومهم جداً أن تأتي هذه الأقوال في هذا الوقت بالذات لزيادة عزلة إسرائيل.
التاريخ : 18/4/2012
مقال تحليلي
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت