تغيير المنهاج التعليمي خطوة في طريق (دولنة) غزة ..بقلم د/ إبراهيم أبراش

بقلم: إبراهيم أبراش


التعليم بكل مستوياته ليس مجرد علوم ومعارف وشهادات تُمنح للتلاميذ والطلبة ، بل بالإضافة إلى ذلك ، أهم مصادر التنشئة الاجتماعية والسياسية لأي شعب وأمة،إنه البوتقة التي تصهر كل المكونات الثقافية والعرقية والطائفية والسياسية لكل مكونات الأمة ،ومخرجاتها منهاج تعليمي يعبر عن ثوابت الأمة وشخصيتها وتاريخها وطموحاتها وتطلعاتها المستقبلية.وعليه نلاحظ أن الدول والحكومات تعتبر التعليم جزءا من سيادتها وأمنها القومي ولا تتساهل في عملية وضع والإشراف على التعليم وخصوصا في التعليم الاساسي .

قبل تأسيس السلطة الوطنية الفلسطينية كان الفلسطينيون يدرسون مناهج البلاد التي يتواجدون فيها،ولم يكن هناك منهاج تعليمي فلسطيني،وكان فلسطينيو قطاع غزة مثلا يعرفون تاريخ وحضارة وجغرافيا مصر أكثر من معرفة تاريخ وجغرافيا فلسطين،وهكذا بالنسبة لبقية التجمعات الفلسطينية.مع وضع المنهاج الفلسطيني الموَحَد بعد تأسيس السلطة أصبح هذا المنهاج رمزا من الرموز المعنوية للسيادة،ومع بعد الانقسام وبالرغم من سيطرة حماس على المدارس والمدرسين وإخضاعهم لفلسفتها وتوجيهاتها في غزة بعد استنكاف معلمي السلطة عن العمل،ونفس الامر تقريبا جرى في الضفة حيث طبقت السلطة هناك ما يسمى ( السلامة الامنية )- ألغي منذ أيام - استمر المنهاج التعليمي آخر معاقل الوحدة الوطنية حيث ما يدرسه طلاب الضفة يدرسه طلاب غزة،بالإضافة إلى توحيد الشهادات.

نأمل أن يبقى التعليم بعيدا عن الانقسام والتجاذبات السياسية التي طالت كل شيء حتى الهوية والثقافة ،فقد فشلت جهود توحيد اتحاد كتاب فلسطين واتحاد الصحفيين وبقية الاتحادات المعبرة عن وحدة الثقافة والهوية ،إلا أنه للأسف بوعي او بدون وعي تتم عملية تعميم الانقسام إلى التعليم مما قد يؤدي إلى انقسام الهوية والثقافة الوطنية وهو اخطر أشكال الانقسام حيث ستمتد تأثيراته المدمرة على الاجيال القادمة.

أعلنت وزارة التعليم في غزة يوم الاثنين 23-4-2012 وعلى لسان الدكتور زياد ثابت وكيل الوزارة المساعد للشؤون التعليمية أن الوزارة بصدد تدريس مادة اللغة العبرية كمادة اختيارية في المدارس بداية العام الدراسي القادم.إلى هنا فالخبر قد يبدو عاديا لو كان الوضع عاديا،فتدريس مادة أجنبية في المدارس أمر مهم ومفيد وخصوصا إن كانت اللغة العبرية ،وهو من اختصاص وزارة التعليم .

ولكن... حيث أن الوضع الفلسطيني غير عادي فالانقسام أوجد سلطتين وحكومتين ، وللأسف سلطتين وحكومتين متعاديتين،لكل منها وزاراتها وأجهزتها الامنية والضريبية والقانونية والقضائية،وحيث أن هذا الوضع مرفوض وباعتراف كل الأطراف التي تبذل جهودا كبيرة لإنهاء الانقسام وانجاز المصالحة لتتوحد المؤسسات مجددا في إطار سلطة وحكومة واحدة ،فإن صدور قرار تدريس اللغة العبرية بشكل منفرد من حكومة غزة في هذا الوقت بدون تنسيق واتفاق مع وزارة التعليم في الضفة قد يكون مقدمة لامتداد الانقسام للنظام التعليمي وبالتالي تكريس حالة الانقسام المعمم واستكمال حلقات تدويل قطاع غزة .

الخوف ليس من تدريس اللغة العبرية، ولكن من اتخاذ القرار بشكل منفرد، مما يضرب في الصميم مبدأ وحدة المنهاج التعليمي الفلسطيني،فإذا مر هذا القرار فلا شيء يَحوّل صدور قرارات لاحقة بإلغاء مواد محددة من المنهاج أو إضافة مواد أخرى ،وخصوصا ان انتقادات تم توجيهها قبل ذلك لبعض مواد المنهاج الفلسطيني التي يقول المنتقدون انها تنتقص من الحقوق الوطنية الفلسطينية او تتعارض مع الثوابت الفلسطينية .الإقدام على مثل هكذا خطوات سيضعنا أمام منهاج تعليمي في غزة ومنهاج تعليمي في الضفة .

لا نقول هذا من منطلق سوء النية او التشكيك بصاحب الفكرة ،فقد يكون حَسن النية ومدفوعا بالغيرة على النظام التعليمي ومصلحة التلاميذ،ولكن وضع هذه الخطوة في إطار السياق العام لما يجري في قطاع غزة أخيرا كما جرى مع مشكلة الكهرباء والوقود وقبلها مشكلة معبر رفح ثم جباية الضرائب الخ ،يجعلنا امام مخطط استراتيجي متدرج يعمل على صيرورة قطاع غزة كيانا سياسيا قائما بذاته وقطع جسور العودة للتوحد مع الضفة ،ثم وضع العالم امام الامر الواقع ،بالقول : لقد استكملنا شروط بناء مؤسسات الدولة ،وهي شروط متوفرة أكثر مما هي متوفرة في الضفة،بالإضافة إلى أن أراضي هذه الدولة متصلة ومنفتحة على العالم الخارجي !.

هناك مثل قديم يقول :(لا تنظر لعيني الصياد بل أنظر ليديه) وأصل المثل أن صيادا كان يصطاد العصافير في غابة في جو مُترِب وعاصف ،وكانت عيناه تدمعان من هذا الطقس،وكان عصفور صغير وأمه يختبئان من الصياد ويراقبانه من بعيد،فقال العصفور الصغير لأمه :مسكين هذا الصياد إن عينيه تدمعان حزنا على العصافير التي يصطادها،فردت عليه الام )لا تنظر إلى عينيه بل أنظر إلى يديه) .ويبدو ان على الشعب الفلسطيني ألا ينظر ويستمع لتصريحات زعماء الفصائل وبكائهم على المصالحة ،بل عليه ان ينظر إلى ممارساتهم على أرض الواقع.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت