إسرائيل اليوم في مواجهة الأسئلة الوجودية والأجوبة المصيرية

بقلم: ماجد الشيخ


من سنوات اليقين إلى سنوات اللايقين، ومسيرة إسرائيل كدولة احتلال كولونيالي وإحلالي، تتعقد أكثر وأكثر، من دون أن تجد صدى ولو محدودا للخروج من أزماتها المقيمة، ومن مأزقها الوجودي الذي أضحت تتردى فيه. ففي مقارنة ومقاربة هامة يعقدها جدعون ليفي (هآرتس/ منتصف إبريل) يستنتج أن إسرائيل ليست كمثيلاتها من الدول، يمكنها أن تعرف يقينا ما سيحدث في داخلها خلال عقد من السنين، وهو لذلك يورد أمثلة حية عما يمكن أن يحصل على سبيل المثال في الولايات المتحدة "التي بات يُحيرها كم من العاطلين عن العمل وكم من مؤمني الصحة سيكون فيها بعد عشر سنين. في حين تسأل أوروبا كم ستزداد نسبة المهاجرين إليها؟ وهل سيظل اليورو موجودا فيها حتى العام 2020؟ أما في إسرائيل فالأسئلة الوجودية أشد شمولاً وعمقاً بما لا يتيح المقارنة، ولا يجهد أحد نفسه في مجابهتها. فرئيس الحكومة يتحدث كأن المشكلات التي تقف على بابه أوروبية (لا يشمل هذا هستيريا الذرة الإيرانية)، في حين أن أسئلة أشد مصيرية بكثير لا تزال بلا أجوبة، ولا يُشتغل بها البتة الى حد يبلغ بنا الحيرة. إن الدولة، وقد أصبح عمرها 64 سنة، لا تزال تواجه الأسئلة نفسها، وكأنها ولدت أمس ولا جواب عليها".

مسيرة نزع الشرعية

بالإضافة إلى الأسئلة الوجودية الصعبة مصيرية الطابع، تعيش إسرائيل هواجس نزع الشرعية وتشبيهها بنظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، حيث ذهب تقرير إسرائيلي حديث للتحذير من أن شبكة عالمية تضم نشطاء أفرادا ومنظمات حقوق إنسان في أنحاء العالم، تسعى إلى نزع شرعية إسرائيل، ليعتبر أن هذه الشبكة تشكل تهديدا إستراتيجيا لإسرائيل. وأشار التقرير الذي أعده "معهد ريئوت"، الذي يعمل على منح المشورة في مجالات الأمن القومي والاقتصاد للحكومة الإسرائيلية، إلى أن هذه التظاهرات أعادت طرح عزلة إسرائيل الدولية، بسبب الجمود في العملية السياسية بين إسرائيل والفلسطينيين، وتصاعد السعي لنزع شرعية إسرائيل في العالم. ودعا التقرير، الذي تم توزيعه على الوزراء الإسرائيليين، إلى وجوب استعداد الحكومة لمواجهة المسعى لنزع الشرعية عن إسرائيل، تماما مثلما تتم مواجهة تهديد إستراتيجي.

ولفت التقرير الذي تم نشره على موقع المعهد الالكتروني إلى أن التظاهرات التي جرت ضد نائب وزير الخارجية الإسرائيلي داني أيالون، خلال إلقائه محاضرة في لندن، وضد السفير الإسرائيلي في الولايات المتحدة مايكل أورن خلال إلقائه محاضرة في جامعة في كاليفورنيا هي جزء من نشاط هذه الشبكة. ليستنتج أن إسرائيل تتعرض لهجمة عالمية تحاول نزع شرعيتها من خلال تظاهرات ضد إسرائيل في الجامعات ومباريات كرة المضرب وحملات إعلامية لمقاطعة المنتجات الإسرائيلية في أوروبا، إضافة إلى تقديم الدعاوى لمحاكم أوروبية للمطالبة بإصدار مذكرات اعتقال ضد مسؤولين إسرائيليين.

في الاتجاه ذاته، رأت صحيفة "يديعوت أحرونوت"(17/4)، إن مسألة نزع الشرعية عن إسرائيل تتفاقم بسبب افتقارها إلى خطة ملموسة لمواجهة جيل جديد من المواقف المعادية في أوساط الجالية اليهودية الأمريكية وفي الجامعات أيضا. وأوضحت الصحيفة في مقال بعنوان (هل تخسر إسرائيل المعركة؟)، أن المسألة في الجامعات ليست المعاداة المتعصبة للسامية، بل هي حالة من الشباب المتعلم والذكي الذي تم التأثير عليه بسهولة وبشكل مقنع من خلال الرواية الفلسطينية القوية والساحقة. وبينت أن هذا الجيل الجديد لم يعد من المغرمين بدولة إسرائيل، بل هو غاضب على نحو متزايد، ولا يمكنه فهم كيف تستطيع الولايات المتحدة الحفاظ على مثل هذا الدعم الثابت لإسرائيل. أما بالنسبة للجالية اليهودية الأمريكية، فقد بينت الصحيفة أن خيبة أملهم كبيرة نحو سياسات دولة إسرائيل، التي لن تفوز بهذه المعركة من خلال قدراتها العسكرية المتفوقة، بل على العكس، سيتم تحقيق هذا النصر عبر وسـائل الإعلام، وفي الجامعات.

خلاصات أكثر سوداوية

على هذه الخلفية السوداوية، تنبأ بحث جديد أعده معهد أبحاث الأمن القومي التابع لجامعة تل أبيب بأن إسرائيل ستجابه في السنين القريبة المقبلة، الحاجة إلى اتخاذ قرارات في شؤون الأمن القومي المركزية، وستفعل هذا في واقع سيكون تركيبه أكثر تعقيدا. أو كما يقول مدير المعهد، د. عوديد عيران: فإن فراغا عظيما نشأ في الشرق الأوسط، كنتاج لثلاث ظواهر: أولها الربيع العربي الذي حدث على خلفية انهيار ما أسماها مسيرة السلام الإسرائيلية العربية كظاهرة ثانية، وضعف الولايات المتحدة الشديد، مشددًا على أن الجمع بين العوامل الثلاثة قد يؤدي بإسرائيل إلى كارثة عظيمة. هذا في الوقت الذي توجد فيه العلاقات بين إسرائيل ومحيطها في الحضيض، وفي حين أن التصور المهيمن في العالم العربي، وفي الساحة الدولية أيضا، هو أن سياسة إسرائيل الرافضة مسؤولة بقدر حاسم عن الطريق المسدود، مشددًا على أنه بخلاف الميل الذي ساد إسرائيل إلى نسبة المسؤولية عن جزء كبير من التطورات في الشرق الأوسط، إلى إيران، فإن قدرة طهران على توجيه الأحداث محدودة.

وبحسب المجموعة التي أعدت البحث، فإن خلاصاته هي الأكثر سوداوية وتهديدا، منذ بدأ المعهد ينشر تقديراته في العام 1983. حيث يلاحظ حدوث تدهور ملحوظَ آخر في السنة الأخيرة لوضع إسرائيل الاستراتيجي، في وقت لم تبلور الحكومة الإسرائيلية إستراتيجية عمل سياسي ناجعة لتبريد مراكز التوتر، فقد زادت التحديات التي تواجهها الدولة، وفي المقابل يحظى زخم دبلوماسية السلطة الفلسطينية بالمناصرة والتأييد المهم اللذين يثبتان أكثر عزلة إسرائيل الدولية التي أخذت تزداد.

نحو العزلة المطلقة

وفي شأن مسيرة نزع الشرعية عن إسرائيل ووجودها في هذه المنطقة، يقول البحث إن مسيرة نزع الشرعية مستمرة وتفضي إلى إضعاف ملحوظ لمكانة إسرائيل السياسية، والى قيود شديدة على حرية الجيش الإسرائيلي في عملياته. علاوة على ذلك، هناك إشارة إلى أن ضعف مكانة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط والعلاقات العكرة بين إدارة اوباما وحكومة نتنياهو، تسلب إسرائيل عنصرا رئيسا من صورتها الردعية. ويُمكن هذا الوضع جهات أخرى من محاولة لعب دور في الشرق الأوسط بصورة لا تخدم مصالح إسرائيل. مشيرًا إلى أنه على خلفية عدم وجود تقدم في الجهد لردع المشروع النووي الإيراني، يزداد خطر أن تتجه دول أخرى في المنطقة إلى المسار النووي.

لهذا شمل البحث التطرق للمسيرة التي تزيد في نزع الشرعية عن إسرائيل، والاستنتاج النهائي هنا أيضا بائس: إن الهدف الذي نصب لحملة نزع الشرعية هو عرض إسرائيل بأنها دولة تُخل على الدوام بالقانون الدولي، وبحقوق الإنسان، وبجميع القيم السائدة، وبأنها دولة تستعمل الفصل العنصري وتتحمل تبعة جرائم حرب بصورة واسعة وجرائم ضد الإنسانية، وأن هدف الحملة الدعائية هو أن تصبح إسرائيل دولة منبوذة، وهو ما يفضي إلى عزلتها المطلقة في مجالات الدبلوماسية والاقتصاد والثقافة والأكاديمية والفن.

يجري كل هذا في ظل وضع يعاني جمودا مزمنا في عملية التسوية العتيدة، حيث يرى رامي لفني تحت عنوان "دواعي السلام لم تعد قائمة" (هآرتس 16/4) أن هناك ابتعادا من قبل النخب الإسرائيلية والفلسطينية عن حل الدولتين. فالفلسطينيون يئسوا؛ في حين وجهت بقايا اليسار في إسرائيل معظم عنايتها الى النضالات الاجتماعية التي تنتهي عند الخط الأخضر، والى جدالات داخلية. وتغيرت حركة السلام ايضا، فقد قلّ وزن "منظمات السلام" التي تعمل على تقدم المسيرة السياسية، وزاد وزن "منظمات الاحتلال" التي تحصر عنايتها في جوانب إنسانية من السيطرة على "المناطق"، لكنها لا تمس مباشرة بسؤال حل الصراع. ويدل هذا الوضع على تغلغل تصور أن الاحتلال دائم.

رغم كل هذا، فهناك من يرى أن كل شيء مفتوح وسيّال وهش بصورة مخيفة. وعلى حد تعبير جدعون ليفي، فإن سيناريوهات مستقبل إسرائيل الثلاثة باعتبارها دولة احتلال وهي: استمرار الوضع الراهن الى الأبد، أو دولتان، أو دولة واحدة ، تبدو الآن بلا أساس، وتوقف الاشتغال بها تماما وكأن عدم البحث فيها سيؤدي الى حل قابل للتحقيق. لكنه لا يوجد لجميع الأسئلة المصيرية الأخرى أيضاً جواب حقيقي، ولا تكاد تثار في برنامج عمل الإسرائيليين الذين كان يجب عليهم أن يحصروا عنايتهم فيها وحدها تقريبا. إن دولة بلا مستقبل (واضح)، تتسلى بالماضي وتحصر عنايتها في الحاضر تشبه دولة لأمد قصير. ولا يسأل أحد حتى عشية أيام الانفعال القومي القريبة ماذا سيكون وجهها بعد عشر سنين، وهي مدة تُعد صفرا بالمعنى التاريخي؟.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت