يستحق البابا شنودة الثالث بابا الإسكندرية – رحمه الله – أن يُكرَّم كل هذا التكريم بعد وفاته ، وأن يُشيَّع إلى مرقده الأخير بكل هذا الحب وبهذه الدموع وبهذا التخوُّف مما هو آت . لقد عاش الرجل فينا محبوبا من الناس بقدر الحب الذي يكنه للناس ، وعاش حكيما يسوس رعيته بالحكمة والمحبة والموعظة الحسنة ، كما عاش في خلواته راهبا عابدا متعبدا في صومعته بعيدا عن مفاتن الحياة وبهارجها ، زاهدا في كل مظاهر الثراء والجاه والسلطان ، وجيء به من صحراء الرهبان ؛ من مغارة ارتضاها لنفسه مكان إقامة ، يروِّض نفسه فيها سنوات طويلة ، سلواه فيها التسبيح والصلاة لله سبحانه ، فتم له النأي بنفسه عن الشهوات الدنيوية والمغريات المادية . جلس البابا شنودة على كرسي البابوية في الكاتدرائية المرقصية الكبرى بالقاهرة سنة 1971 فأمسك بزمام أمورالأقباط وساسهم بالمحبة والمؤاخاة ، وسار بهم السيرة الحسنة اللينة في مسالك سهلة مهّدها لهم بالتصالح مع النفس ومع الآخرين وبالصفح عن المسيء ، وكان دائما يجنح إلى المسالمة حين تمتد يد آثمة فتشعل الخلافات الدينية بين المسلمين وبين المسيحيين ، فيسرع في إطفاء الحرائق الطائفية قبل أن يتآكل البيت الكبير . وكانت مصر في خاطره ووجدانه ، وعينه ساهرة لاتغفل عن حراستها ولاتنام ، ويده ممدودة يكفُّ الأذى عنها ويداوي جراحاتها مع إخوانه العقلاء في مشيخة الأزهر الشريف ومن عامة المسلمين ، دءوباً في سعيه للحفاظ عليها من الفتن ماظهر منها وما بطن ، حريصا على وحدتها أرضا وشعبا . فكان همُّه سلامة مصر وأمن مصر ، وكان يذيع في جلسائه أن " مصر وطن يعيش فينا ، وليس وطنا نعيش فيه " . لهذا تجده يدعو المسيحيين والمسلمين جنبا إلى جنب ويدا بيد إلى حل المشكلات بعدم مواجهة الخطأ بالخطأ ولا بمقابلة العصا بالعصا ، وإنما بالتسامح والتصالح والمحبة بين الأخوة الشركاء في المواطنة . هكـذا كان البابا شنـودة يتبوأ أعلى درجات الانتماء والوفاء للوطن ، وبهذا استحق أن نتوجه بلقب : حكيم مصر .
ظلت الكنيسة القبطية على توافق مع النظام الحاكم في مصر منذ ثورة يوليو سنة 1952 ولم تسجل الأيام أي نوع من التصادم المنظم في عهد المرحوم جمال عبد الناصر ، وكانت الحياة بينهما تسير سيرا طبيعيا رغم ما كان يحدث من مشاغبات الإخوان المسلمين والشيوعيين التي كانت تنتهي إلى التصادم الدموي مع الحكومة فتمتلئ السجون بهم . ولكن في عهد السادات اختلف الأمر وخاصة حين سجل البابا شنودة رفضه الصريح لاتفاقية السلام مع إسرائيل ، وأبدى اعتراضه على زيارة السادات للقدس سنة 1977 وهي تحت الاحتلال الصهيوني ، ورفض دعوة السادات له بمرافقته في هذه الزيارة لإسرائيل . فغضب السادات عليه لرفضه غيرالمتوقع ، إذ كيف يجرؤ البابا شنودة ويرفض دعوة فرعون مصر الأكبر! فساءت العلاقة بينهما وصنع السادات حالة عدائية تجاه البابا ، وتفاقمت الخصومة بينهما عندما أصدر البابا قرارا بعدم احتفال الكنيسة بأحد الأعياد الدينية المسيحية وبعدم استقبال المسئولين الرسميين الموفدين مـن قِبَل الدولة ، وكانت هذه هي المرة الوحيدة التي أرسل فيها البابا شنودة رسالة طافت بكل الكنائس قبيل الاحتفال بالعيد المجيد يعلن فيها صراحة أن هـذه القرارات جاءت ( احتجاجا على اضطهاد الأقباط في مصر) .
وجاء حسني ( اللامبارك ) وسلك طريق ساداته ، ولكنه كان في الظاهر ألين جانبا وأطرى عودا وأشد برودا وأعمق خبثا من السادات ، فلم يصمد لهبات الزوابع ، ولم يَلِِ أمر مصر كما يجب ، ولم يحمل الأمانة كما ينبغي ، فكان عهده هو عهد استباحة حرمات مصر وبلاد العرب أجمعين ، وصالت إسرائيل ثم جالت في غياب قوة الردع العربية عندما تمَّ لها تحييد الجيش المصري الذي بناه المرحوم جمال عبد الناصر، وتمَّ لها إسكات مصر، وضمنت بذلك سكوت العرب جميعا . فشنت حروبها على لبنان وفلسطين وقتلت ودمرت وشردت ، وحاكت المؤامرات ونسجت الدسائس لتخريب بلاد العرب ، وأصبح الأعداء التاريخيين للسادات وتلاميذه أصدقاء حميمين ، وساهمت مصر اللا مبارك بمعولها في هدم حدائق بابل وإحراق مكتبة بغداد وتدمير ملجأ العامرية ، ونسي اللامبارك أو تناسى مدرسة بحر البقر والدماء التي سالت على كراسات الأطفال . بل رأيناه وهو يسنُّ سكينه ليُضحي بالشهيد صدام حسين صبيحة عيد الأضحى الــذي
لم يكن على المسلمين مباركا .
كان البابا شنودة – رحمه الله – صاحب موقف وطني من القضية الفلسطينية ، بدأه برفض اتفاقيات السلام . وبرفض زيارة القدس المحتلة تحت عباءة السادات ، وأعلن انه لا يقبل بدخول القدس إلا بتأشيرة فلسطينية . وقد أصدر قراره البابوي بمنع أي مسيحي دخولها إلا يدا بيد مع شقيقه المسلم عندما تتحرر فلسطين من الاحتلال الصهيوني ، وكان يعلن دائما وفي كل مناسبة دينية أو وطنية منع زيارة القدس والصلاة فيها مادامت تحت الاحتلال الإسرائيلي ، والتزم هو والتزم معه المسيحيون بعدم التطبيع مع العدو المغتصِب للأرض والحقوق العربية . وليس غريبا على البابا شنودة ولا على رجالات الدين المسيحي هذا الموقف الوطني . ويُذكِّرنا ذلك بالمطران كابوتشي ( مطران القدس للروم الكاثوليك ) الذي جاهد حق الجهاد من أجل عروبة القدس ، فاعتقله الإسرائيليون في سجونهم ووجهوا له تهمة مساعدة رجال المقاومة الفلسطينبة والتعاون مع قيادة منظمة التحرير وحيازة أسلحة ، وحكمت عليه المحكمة العسكرية الإسرائيلية بالسجن اثنتي عشرة سنة قضى منها بعضها ، ثم نفوه خارج فلسطين بعد أن تدخَّل بابا الفاتيكان الذي أخذ على عاتقه وبكفالته الشخصية بعدم عودة المطران كابوتشي إلى الشرق الأوسط . ولكن نفسه تظل تهفو إلى المدينة المقدسة مسقط رأسه ، ويأخذه إليها الحنين الجارف الذي يتقـد في قلبه صباح مساء ، وحاول العودة بمشاركته المتضامنين مع أهل غزة في سفينة الحرية التي امتدت إليها أيدي القراصنة الإسرائيليين وهي في عرض البحر الذي تلـوَّن ماؤه باللون الأحمر .
ونذكر أيضا المطران عطا الله حنا ( رئيس أساقفة سبسطيا للروم الأرثوذكس ) في دفاعه عن عروبة القدس ، الذي يرفض زيارة القدس في ظل الاحتلال ، ويحتج على أصحاب الدعـوة الهدامة الذين يروجون لزيارة القدس وهي تحت الاحتلال الإسرائيلي ؛ أولئك المفتون ووزراء الأوقاف المسلمون وأصحاب العمائم واللحى وكل بطانات الحاكم الرسمي الذين يتباكون على المسجد الأقصى ويتخاشوْن عليه من التهويد ، لا يقدمون له شيئا إلا الشعارات الخجولة بالشجب والاستنكار ، ويجهرون بالدعـوة لزيارة القدس وهي تحت الاحتلال محتجين على دعوتهم بالعُـمرة التي قام بها رسول الله – صلى الله عليه وسلم – حين كانت مكة في قبضة المشركين من كفار قريش ، ونسي الداعـون إلى الضلال أن المشركين من كفار قريش هم أصحاب مكة وأهلها وليسوا غرباء عنها أو طارئين عليها أو جائين إليها من روسيا وبولندا وألمانيا والهند وإيران واليمن ، ومن بلاد أخرى كثيرة بسحناتهم المتغايرة وجوههم وألوان بشرتهم المتعددة وبألسنتهم المختلفة . ولم يكونوا محتلين لها ولامغتصبين إياها ، ولم يكن في نيتهم ولا في مخططاتهم هدم الكعبة ، بل كانت الكعبة عندهم معزَّزة مكرَّمة مقدسة ، يؤدون فيها مناسكهم الموروثة ، ويطوفون حول البيت الحرام في خشوع . فليقرأ أولئك الداعون للفتنة وصُناع الشغب الديني والمُضلون الناس ، أمثال أبي مُرَّة وأبي كردُوس وآخرين ؛ فليقرأوا التاريخ الإسلامي لعلهم يستذكرون حيثيات معاهدة صلح الحديبية وشروطها التي أغضبت كثيرا من صحابة رسول الله ، لأنها اشترطت على محمد – عليه الصلاة والسلام – ومَن معه من المسلمين الرجوع إلى المدينة المنورة في ذلك العام على أن يعودوا في العام القادم للاعتمار في ثلاثة أيام فقط ؛ يُخلي فيها كفار قريش مكة للمسلمين ، وقَبِلَها الرسول الكريم رغم صيحات الرفض والتذمر من حوله ، وأنفذ ما تعاهد عليه مع المشركين من كفار قريش الذين هم أهل مكة . أما دعاة الفتنة الضالون المضلون من مسلمي اليوم ، فإنهم يعلمون أن إسرائيل لا تسمح لهم بدخول المدينة العتيقة لا للصلاة فيها ولا لاستقبال مَن لبَّى دعوتهم . ودعاة التطبيع مع إسرائيل مقيدو الأرجل فلايستطيعون تخطي حاجز رام الله العسكري إلا بتصريح مسبق من جيش الاحتلال إسرائيلي .
عذرًا أيها البابا ... فإن للحديث شجونا ، والشيء بالشيء يُذكر .....ففي ذمة الله أودعناك وودعناك ، وستظل عائشا في قلوب مَن كنت تحبهم فأحبوك ، وستبقى سيرتك الطيبة على كل لسان مبين ، مبين بفضلك على مصر والمصريين بنشر المحبة والتسامح والتصالح . وبفضلك على أصحاب الديانات السماوية بترسيخ مفاهيم الأخوة الوطنية بين الناس وإبراز نقاط الالتقاء والاتفاق بين دياناتهـم ، والدعوة للصفح عن أي هفوة من يد أو لسان . وبفضلك في إطفاء نيران الفتن التي كان يُذكيها السفهاء والمفسدون . وبفضلك على اللغة العربية والمحافظة على فصاحتها ورصانتها وأحكام قواعدها دون الخروج عنها ، ولاغرو في ذلك وأنت الأديب والشاعر، صاحب البيان والبلاغة ، تُمسك بناصية اللغة العربية أينما وجَّهت قلمك ولسانك . وكنتَ من الرجال القلائل في هذا العصر ممن يتقنون بعض اللغات القديمة ، وإني لأذكر ذلك اليوم الذي رأيتك فيه وأنت بين مجموعة من الأساتذة والمفكرين سنة 1976 في شقة لأحد أساتذتي بالإسكندرية الذي يُجيد العبرية والآرامية وابنتها السريانية ، ويقوم على تدريسها في الجامعة . وكنتم تتحلقون حول طاولة مفروشة بالكتب الصفراء العتيقة ، نُسخ مختلفة للكتاب المقدس ( العهد القديم والعهد الجديد ) بلغات متعددة منها اليوناني والآرامي والسرياني والقبطي واللاتيني والعربي والعبري القديم والحديث .... الخ . وعندما سألت أستاذي أجابني : نترجم الكتاب المقدس من مظانه ومصادره الأولى إلى اللغة العربية بلغة عصرية وبثوب لغوي جـديد . رحم الله البابا شنودة الذي حارب فكرة الاضطهار وظلم العباد ، الرافض لقوى الغرب بالتدخل في مسارب الكنيسة ، محاذرا من أن تمتد يد أجنبية بدعـوى مبطَّنة للإخلال بأمن واستقرار مصر، فكانت قولته الفاحصة الرشيدة : ( إن مشاكل الأقباط في مصر لاتُحَلُّ إلا على أرض مصر دون تدخل أجنبي ) . فكان بحق شخصية عاقلة حكيمة . ونحن من خلال هذه المقالة ننعى البابا شنودة لكل المسيحيين ولكل الفلسطينيين بمن فيهم أهل القدس لمواقفه المشرِّفة من القضية الفلسطينية ، ولموقفه الممتنع على التطبيع مع العدو الصهيوني ، ولرفضه زيارة القدس ، وبمنعه المسيحيين من زيارة القدس ما دامت تحت الاحتلال الصهيوني . ففي أربعينك أيها الحكيم نقول لك : وداعا يا أنموذجا للوطنية الصادقة والحكمة البالغة ، وليت قومي المسلمين من المفتين ومن وزراء الدين في جوقة العباسيين والحماسيين ، يستلهمون منك شيئا من الصدق في الوطنية وشيئا من الحكمة وشيئا يسيرا من الإخلاص للقدس ولأهـل القدس ... ولا نريد زيتهم الذي يتمحكون به في خطبهـم وأحاديثهم المتلفـزة . ولو كان الرسول محمد – صلى الله عليه وسلم – بيننا لأفسد حججهم وأبطل سحرهم . فالمسجد الأقصى لايحتاج إلى زيت ودُهن ، ذلك عهد مضى وانقضى ، ولكن المسجد الأقصى يحتاج اليوم إلى السيف وإلى رجال أشداء يلبُّـون نداء الاستغاثة : واإسلاماه !!! . فما الزيت هذا الذي يذكره خطباء المساجد أيام الجُمع إلا دليل على قصر ذيل فيك يا (....) ، ولتمرير رغبة الحاكم الجاهل الذي يردد ما يسمعه من بطانة السوء دون فهم وبلا تمحيص . ولكن ، واأسفاه ! على قوم ضيَّعـوا أنفسهم وضيَّعـونا معهم . فمَن لا يقدر أن يسترجع القدس ، ويُخلِّص المسجد الأقصى وكنيسة القيامة فليقل خيرًا أو ليصمت ... *
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت