تكرار الشيء يفقده معناه وأهميته...حين يكون هذا الشيء بصفته الإنسانية البحته...وحين لا يمثل هذا الشيء تجربة يُستفاد منها...فالأمثال على كثرتها تقال في سياق مناسباتها...والحِكَم تُكَرّر لأنها حِكَم...الشعب الفلسطيني لديه من التجارب قبل الإنقسام ما كان يمكن أن يغنيه عن حدوث الإنقسام، ومع ذلك حدث الإنشطار في ظرفٍ سياسي نابعٌ من حقيقة إقليمية ودولية...تأصلت لاحقا لتصبح حقيقة سلطوية لمصالح سلطوبة غُلفت مرة بإحتياجات دولية سياسية ومرة أخرى بشعارات مقاومة ضد التفريط، بل وصلت الأمور إلى اللا- حدود، بالتخوين دائما وبالعدمية أحيانا.
الإنشطار الأفقي والعمودي الذي حدث نتج عنه ما يُعرف بمفهوم المصالحه، والقافلة بدأت تسير بإتجاهين متعاكسين أحيانا ومتوازنين أحيانا أخرى...وحين حلّ ما يُعرف ب "الربيع العربي"، وإنعكاساته بالضرورة على الواقع الفلسطيني، لاح في الأفق مفهوم التجميع، وبدأ الجمهور يشعر بأوان اللُّحمَة، وكانت الإستجابه السياسية لرموز قيادة الإنشطار قادمة من المحيط أكثر بكثير من كونها إنعكاسات لإحتياجات شعبية أو إحتجاجات شعبية.
إتفاق القاهرة، وبعده ما عرف بإتفاق الدوحة الذي إعتبر ورقة تنفيذية للإتفاق السابق، وجاء ما بعد بعده إتفاق القاهرة الجديد، الذي إعتبر ورقة تنفيذية للورقة التنفيذية المتفق عليها في الدوحة، كل ذلك حدث في غضون أشهر قليلة، سبقها إتفاقات أخرى، مرة بإسم الأسرى، وأخرى بإسم مكة، ولاحقا تمأسس حوار القاهرة الذي إستمر سنوات...النتيجة بقاء الإنشطار ومأسسة الحوار وإستمرار وجود سلطتين لقطعتين جغرافيتن تمثلان واقع الدولة المستقبلية التي ينادي بها طرفي المعادلة وبغض النظر عن طبيعة الرؤية والهدف الإستراتيجي.
الشعب الفلسطيني كنتيجة لهذا الإنشطار العميق لم يغادر القاعدة الثانية من هرم "ماسلو"، وبقي يعيش واقع اللا- أمان، ليس من الإحتلال ومستوطنيه فحسب، بل من بني جلدته ومن قيادته، شعب ضحى ولا يزال بأغلى ما عنده يعجز عن لم شمله لا لسبب جوهري لا يمكن تجاوزه، إنما في واقع الأمر لعدم القدرة، ولقصور ذاتي قاده الإحباط مرة، وما حصل في غزة من ألم دموي مرة أخرى، وتراكم الألم بما حصل في الضفة كنتيجة غير طبيعية لغزة.
اليوم، يبدأ أمل جديد نحو تخطي الألم، وجِديّة التصريحات في لم الشمل القادمة من القاهرة تُثقل كاهل المواطن المتشائل أصلاً، فهو يطمع للعودة نحو الوحدة، لكنه يخاف من تجارب سابقة علمته أن ينظر بعيون الشك الدائم لتلك الرموز التي أتخمته أوراق وإتفاقات وتصريحات، المواطن أصبح لا يفهم ماذا حدث؟! وما بعد الحدث...والشارح لما حدث لم يستطع أن يُفهم المواطن المتشوق للوحدة عما حدث، يقول "آينشتاين" "إذا لم تستطع شرحها ببساطه، فأنت لا تفهمها بما يكفي"...وحيث أنني مواطن لم أفهم الإنقسام الذي تحول إلى إنشطار أولاً، لم أفهم أيضاً تلك التصريحات والتوقيعات المتدفقة بقوة من القاهرة.
ورقة تنفيذية للورقة التنفيذية الموقعة في الدوحة لتطبيق الإتفاق الموقع في القاهرة، تتحدث عن حكومة لقطعتي "بزل" الدولة الفلسطينية المنشودة برئاسة الرئيس "أبو مازن"، مهماتها، إعمار غزة وإجراء الإنتخابات بعد ستة أشهر، وإذا تعطلت الإنتخابات لسببٍ ما، يتم تشكيل حكومة جديدة بالتشاور...التنفيذ يبدأ متزامنا، تشاور لتشكيل الحكومة في غضون عشرة أيام، مع بدء عمل لجنة الانتخابات الفلسطينية في غزة لتحديث "سِجل الناخبين" وتحضير الأرضية البيانية والجغرافية والمؤسساتية للإنتخابات...تنفيذ تزامني وكأنه إتفاق تبادل أسرى...أتفهم كلّ الشكوك لدى طرفي المعادلة، وأتفهم التزامن في التطبيق، لكني عفواً!! لا أتفهم أين حسن النية في كل ذلك، ولا أتفهم السعي نحو التوافق والتوحد في ظلِّ الشكوك.
الشيخ "أبو حامد الغزالي" صاحب "احياء علوم الدين" قال: "ان نصف الكفر في هذا العالم يتسبب به رجال الدين ..فهم يبغّضون الله الى خلقه اما بسوء صنيعهم واما بسوء كلامهم"، وهنا في واقعنا، نصف الكلام، ونصف التوقيع، الذي يتسبب به السياسيين، يؤدي ليس لبغضهم فقط، بقدر ما يطفيء النار المتوقده في قلوب وعقول الشعب الفلسطيني المُشَتت ومنذ عقود، ألا يكفي أؤلئك القادة معاناة شعبهم في المخيمات والشتات، ألا يكفيهم ما يُحدثه الإحتلال يوميا للضفة والقدس وغزة، ألا يكفيهم معاناة من لا بيت له في القطاع الحبيب، ألا يكفيهم ما حلّ بشعبهم من كوارث وفي أغلب العواصم العربية، ليصبح نصف التوقيع كاملا ومطبقا على أرض الواقع، إحتراما ليس لعقولنا فحسب، إنما لأجل الأجيال القادمة التي تنظر إليكم بعيون مليئة بالشك والريبة.
عندما وقفت إبنتي على مسرح مدرستها، لتلقي كلمة الخريجات، وتحدثت عن المستقبل، وعن وعدها للوطن المتخيل، وتردد اشعار محمود درويش "على هذه الأرض ما يستحق الحياة"، نظرتُ في عينيَّ، وفتحت قلبي وعقلي لأرى ما فيهما...فوجدت الأمل الممتدّ من جيلٍ إلى جيل، وجدت أن فيهما من فلسطين ما يكفي ويفيض ليتجاوز كلّ العقبات، وجدت أن السياسة والحزبية والمصالح السلطوية ليست سوى قزمٌ لقزمٍ أمام عملاق فلسطينيتنا وعروبتنا، وجدت أن قيادتنا بشقيها لها نفس قلبي وعقلي، فتعجبت من كثرة الأوراق والاتفاقات، تعجبت من مِضي تلك السنوات العجاف ولا تزال، تعجبت من مفهوم التزامن، ومفهوم التقاسم السلطوي، ومن مفاهيم العلمانية والإسلام السياسي، تعجبت من تلك السياسة التي ليست بسياسة بقدر ما هي مصالح فردية تلتقي مع المحيط أكثر من الأخ، وغُلّفت بمفاهيم حزبية فئوية، وأصبحت تسمى إنقسام ومصالحة.
ما بَعدَ بَعدَ الإتفاق أوراق للتنفيذ، فهل هذا البَعْد سيوصلنا لما بَعدَ البَعْد؟؟؟ الشعب يُريد ذلك، وقيادات الإسلام السياسي في المحيط تُشجع على ذلك، وراعي هذا الإسلام السياسي من بعض دول الخليج تدفع نحو ذلك، والرئيس "ابو مازن" يدفعُ بقوة نحو أمله وأمل شعبه في لم الشمل والتوحد الذي هو الشرط الأساسي لقيام الدولة، الواقع الدولي بين داعم وبين معيق، ووحدها حكومة "نتنياهو" هي التي لا تُريد، فهل سينجح المعيق الوحيد؟؟ أم سنكرس ومن جديد فلسطينيتنا كجوهر لوجودنا لا أحزابنا وفئويتنا ومصالحنا؟!!!
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت