صيدلية أبو لبن من يافا إلى دمشق والعكس

بقلم: علي بدوان


في الذكرى الرابعة والستين لنكبة فلسطين، نورد بعض الوقائع التي تحمل في طياتها سيرة الشعب الفلسطيني ومشواره الكفاحي الطويل المستمر منذ عام وعد بلفور المشؤوم وحتى اللحظة الراهنة.

في سيرة الشعب الفلسطيني، تتربع دراما النكبة، العنوان المفصلي الأساسي الذي يلخص عملية الاقتلاع الوطني والقومي للشعب الفلسطيني، وقيام الدولة العبرية الصهيونية على أنقاض المساحة الأكبر من وطنه التاريخي.

عملية الاقتلاع الوطني والقومي، قذفت بأكثر من نصف الشعب الفلسطيني نحو بلدان الشتات العربية المجاورة والى المهاجر الأجنبية، الى أن الكتلة الأكبر من هذا الشعب مازالت جاثمة على مقربة من ارض فلسطين في سوريا ولبنان والأردن، في تعبير يحمل دلالاته القاطعة، فالعودة حق لايموت بالتقادم، ولايلغيها منطق القوة.

في هذا الاطار، دخل عام النكبة الى سوريا نحو تسعين ألف لاجئ فلسطيني، معظمهم من مناطق شمال فلسطين، وتحديداً من مناطق صفد وعكا وحيفا وطبريل والناصرة، فيما دخلت أعداد أقل مناطق يافا ووسط فلسطين. وقد باتت أعداهم اليوم تزيد على خمسمائة ألف لاجىء، يضاف اليهم نحو مائة وخمسين الفاً ممن جاءوا الى سوريا في السنوات التي تلت، ليصبح مجموع الفلسطينيين في سوريا في الوقت الراهن قرابة ستمائة وخمسين الف لاجىء، معظمهم من مواطني فلسطين المحتلة عام 1948. ومن بينهم أبناء بعض العائلات الفلسطينية التي ارتبطت مع عائلات دمشق وغيرها من مدن سوريا الحالية بالتجارة المتبادلة، ومنها عائلة ابو لبن اليافاوية.

عائلة أبو لبن، من أكبر وأقدم عائلات مدينتي يافا والرملة قبل النكبة، برز من بين أبنائها عدد من قادة الكفاح الوطني الفلسطيني قبل النكبة منهم، خليل أبولبن، شوقي أبولبن، حامد أبولبن، فيما برز منها بعض النكبة نخبة من الأكاديميين والمتعلمين الذين انتشروا في كل مكان خصوصاً في جامعات مصر العربية والولايات المتحدة الأمريكية والقارة الأوربية. وقد وصل عائلة واحدة أو عائلتين منها الى سوريا في رحلة النكبة عام 1948.

امتهنت عائلة أبو لبن قبل النكبة، مهنة التجارة بين دمشق ويافا وعموم فلسطين، وخصوصاً تجارة الأقمشة والملابس والقطنيات والتريكو والنحاسيات. فالتجارة الرائجة كانت على الدوام قبل النكبة بين دمشق ومختلف مدن فلسطين العامرة، وعلى الأخص منها مدن حيفا ويافا والقدس ونابلس وطبريا. كما أمتهن البعض من عائلة أبو لبن تجارة الحمضيات بعد تعليبها وتوضيبها وتصديرها الى عموم أصقاع المعمورة بما في ذلك الى دول القارة الأوربية (شركة برتقال يافا لأصحابها توفيق وأحمد أبو لبن) والتي كانت قائمة في شارع اسكندر عوض في يافا، والتي كانت تنتج وتصدر جميع الثمار الحمضية لعموم الأقطار المجاورة وماوراء البحار وخاصة المملكة المتحدة بماركاتها المعروفة آنذاك Gold ApplE)) و (Gold BEAM).

في هذا السياق، كانت صيدلية أبو لبن في مدينة يافا في فلسطين قبل النكبة، من أعتق وأقدم الصيدليات في فلسطين، وقد انتقلت الصيدلية بكاملها الى دمشق مع وقوع النكبة، عندما اعاد افتتاحها في دمشق بعيد النكبة بقليل ابن مدينة يافا الصيدلي المرحوم عبد الحميد أبولبن في منطقة الدرويشية المكتظة وسد مدينة دمشق والملاصقة لباب الجابية، وعلى بعد اقل من ثلاثمائة متر من سوق الحميدية الشهير بالعاصمة السورية دمشق، وبالشارع المقابل لمدخل (سوق مدحت باشا) المعروف بسوق البزورية ومنطقة الحريقة، وبالقرب منها جامع سنان باشا (جامع السنانية) القديم منذ بدايات العهد العثماني.

ومازالت تلك الصيدلية التي تحمل الرائحة الزكية لأم المدن الفلسطينية مدينة يافا قائمة في ذلك المكان بدمشق حتى هذه اللحظة، وقد ورثها أحمد عبد الحميد أبو لبن، بعد أن درس الصيدلة في جامعة دمشق، وبعد أن قام بتدريس ابنته الصيدلة أيضاً في جامعة دمشق وقد تخرجت منذ سنوات قليلة. فيما افتتحت صيدلية ابو لبن الثانية في مخيم سبينة للاجئين الفلسطينيين جنوب دمشق.

صيدلية أبو لبن بدمشق المنقولة مؤقتاً من يافا الى دمشق، لا تؤرخ لعائلة ابو لبن، انما تؤرخ لفلسطين الوطن والشعب، كما تؤرخ لنكبة عمرها بات يزيد على الأربعة والستين عاماً. كما تؤرخ لعلاقة طبيعية كانت ومازالت وستعود بين وطن اسمه فلسطين ووطن اكبر كان على الدوام حاضنة لفلسطين وشعبها اسمه سوريا الطبيعية.

في حيفا، كانت الصيدليات الأهم حتى في عموم فلسطين التي انتقل بعضها الى دمشق أيضاً : صيدلية نصار في سوق الحناطير، والصيدلية الألمانية في السوق الأبيض ومعهما صيدلية حنفي. فالصيدلية الألمانية كانت أشبه بمشفى اسعافي، وعدد العاملين فيها فاق عشر ممرضات، انتقلوا جميعهم الى دمشق بعد النكبة واشرفوا على البرنامج الصحي للاتحاد اللوثري العالمي في مبناه القديم في منطقة سوق ساروجة بدمشق لتطعيم أطفال اللاجئين الفلسطينيين في سوريا. ومن حيفا ايضاً انتقلت صيدلية حنفي لمدينة دمشق لتصبح على يد أبناء الجد الصيدلي ثلاث صيدليات تحمل الاسم ذاته، ومنتشرة بدمشق ومخيم اليرموك. لقد كانت سوريا الحالية، سوقاً تجارياً وعمقاً كاملاً وتاماً لفلسطين، كما كانت فلسطين سوقاً تجارياً وعمقاً تكاملياً لسوريا، وعمقاً جغرافياً وبشرياً في بلد واحد لم يستطع الثنائي (سايكس ـ بيكو) أن يلغي حقائق التاريخ العنيدة حتى وان طالت المأساة، واختلت الموازين على الأرض.

لقد كانت سوريا الحالية تستورد من فلسطين كل ماتحتاجه عبر ميناء حيفا وميناء يافا، في وقت كانت فيه امدادات النفط ومشتقاته لسوريا الحالية تأتي من مصفاة نفط حيفا (الفينري) لا غيرها حتى النكبة عام 1948. كما كانت فلسطين تتزين بكل ماهو قادم من أرض دمشق الفيحاء وما حولها.

صيدلية أبو لبن كانت في يافا، وصيدليتا نصار وحنفي في حيفا، ومعهما الصيدلية الألمانية، بعضها أصبح بعيد النكبة في دمشق. ومنها صيدلية ابو لبن في حي الدرويشية الى الخلف من حارة أبو الشامات قرب سوق الحميدية بدمشق. وصيدلية حنفي في مخيم اليرموك، لكنهما ستعودان إلى يافا وحيفا في دورة التكامل لوطن واحد وشعب واحد. فمن يافا وحيفا إلى دمشق والعكس سيعود طريق التواصل طال الزمن أم قصر. وقد يرى البعض في تلك الكلمات لغة خشبية، أو لغة حالمة، ولكن متى كان الحلم المسلح بالحق مستحيلا.

صحيفة الوطن العمانية

تاريخ الخميس 31/5/2012

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت