العسكريون الإسرائيليون أمام القضاء التركي

بقلم: مصطفى يوسف اللداوي


قد تكون الإجراءات القضائية التي بدأت بها إحدى المحاكم التركية هي الأولى من نوعها ضد مسؤولين إسرائيليين، إذ قبلت إحدى المحاكم التركية في استانبول شكلاً وموضوعاً الشكوى التي تقدم بها ذوو ضحايا أسطول الحرية، الذين قتلتهم القوات البحرية الإسرائيلية، خلال محاولتهم كسر الحصار الإسرائيلي المفروض على قطاع غزة، حيث قبلت المحكمة التركية الإدعاء المرفوع إليها ضد مسؤولين عسكريين إسرائيليين بصفاتهم وأشخاصهم، ووجهت إليهم الاتهام المباشر بأنهم مسؤولين عن إصدار الأوامر العسكرية بإطلاق النار على المتضامنين الأتراك، وأنهم الذين يتحملون قانوناً المسؤولية الكاملة عن إزهاق أرواح تسعة منهم، وإصابة آخرين بجراحٍ خطرة، فضلاً عن الضرر المادي والنفسي الذي لحق بالمواطنين الأتراك من المتضامنين وذويهم، والإساءة السياسية لعلم الدولة التركية الذي كانت ترفعه سفن أسطول الحرية.

لعل الإجراءات القضائية التركية ضد بعض الضباط والمسؤولين الإسرائيليين هي الأولى من نوعها لجهة جديتها، حيث أن استانبول جادة في ملاحقة قتلة مواطنيها، فقد أعلن ذوو الضحايا والمتضامنون معهم، فضلاً عن المؤسسات الحقوقية والقانونية التركية، وغيرها من الجمعيات المهتمة بحقوق الإنسان، أنهم سيمضون حتى النهاية في ملاحقة قتلة أبنائهم، وأنهم لن يمتنعوا عن طرق كل الأبواب الممكنة لإدانة ومعاقبة من ارتكب جرماً بحق مواطنيهم، كما أن قضاة المحكمة التركية أعلنوا التزامهم التام القانون الدولي المتوافق مع القوانين التركية، وأنهم لن يتعاملوا مع القضية المرفوعة إليهم على أساسٍ قومي، بل إن القضية التي استوفت شروطها شكلاً، ستستوفي شروطها الموضوعية بالكامل، وستقوم هيئة المحكمة بإتباع كافة الإجراءات القانونية المنصوص عليها، بما لا ينتقص من عدالة المحاكمة، وبما لا يمس بنزاهة القضاء التركي ومهنيته.

وأعلنت هيئة المحكمة التركية أنها ستلجأ إلى إخطار المتهمين الإسرائيليين، وهم أربعة من كبار الضباط في الجيش الإسرائيلي، وكل من يظهره التحقيق من المسؤولين والعسكريين الإسرائيليين، الذين كان لهم دورٌ في ارتكاب المجزرة، وستبلغهم بقرارها الاتهامي بكل السبل الممكنة، حيث أن التهم موجهة إلى أشخاصٍ بعينهم، أسماؤهم معروفة، وصفاتهم محددة، وعناوينهم باتت معروفة لدى هيئة المحكمة، ولعلها ستلجأ إلى الإنتربول الدولي لإبلاغ المتهمين وإخطارهم بموعد المحكمة ومكانها، وستطلب منهم توكيل محامين وهيئة دفاع ليتولون الدفاع عنهم، لضمان أن تكون إجراءات سير المحكمة قانونية، إذ أن لائحة الاتهام بحقهم أصبحت جاهزة، وفيها من الأدلة والقرائن والشهود والثوابت ما يدينهم جميعاً، وما يهيئ لفتح ملفات مسؤولين إسرائيليين آخرين متورطين، فالمحكمة وافقت على مذكرة الاتهام التي رفعها المدعي العام للدولة، وطالب فيها بالسجن مدى الحياة بحق رئيس أركان الجيش الإسرائيلي السابق غابي أشكنازي، والقائدين السابقين لسلاحي الجو والبحرية، أليعازر ألفرد مارون وأفيشاي ليفي، وقائد الاستخبارات السابق عاموس يدلين، وسيكون من الصعب جداً على هيئة المحكمة التساهل مع المتهمين، أو التباطؤ في سير إجراءات المحكمة، حيث أنها أصبحت قضية رأي عام تركي، يشارك المواطن التركي فيها برأيه، ويمارس دوره فيها بالتأثير والضغط.

ويستند الإدعاء التركي في شكواه المقدمة إلى المحكمة إلى شهادة أكثر من 600 شخص، بعضهم من المشاركين في سفن أسطول الحرية الستة، بالإضافة إلى شهادة ذوي الشهداء، وقد تسلح الإدعاء التركي بتصريحات وأقوال عشرات المسؤولين الإسرائيليين، قبيل هجوم الكوماندوز الإسرائيلي وبعده، فضلاً عن عشرات الوثائق المسجلة والمصورة التي تثبت تورط الجيش الإسرائيلي بارتكاب جريمة حرب بحق مواطني دولة أخرى، وأنه أفرط في استخدام القوة ضد ركاب السفن، وأطلق كمياتٍ كبيرة من الأعيرة النارية واستخدم أسلحة أوتوماتيكية متطورة، في وقتٍ كان بإمكانه السيطرة عليها بطرقٍ أخرى أكثر سلمية، وأقل خطورة على حياة ركابها.

كما حرص الإدعاء التركي على إيراد صور إعداد سفن الإغاثة الإنسانية، مستعرضاً المواد والمؤونة التي كانت تحملها السفن، ليبين أنها لم تكن تحمل سوى أدوية ومواد غذائية، وأقلام ودفاتر وأدواتٍ مدرسية أخرى، مما لا يشكل خطورة على أمن الكيان الإسرائيلي، ولا يشكل خرقاً للقوانين الدولية باعتبار أن شحنة السفن خالية من الأسلحة والمواد الممنوعة الأخرى.

تنظر الحكومة الإسرائيلية بعين الخطورة إلى الخطوة التركية الجديدة، وإن كانت تتوقعها منذ فترة، إلا أنها كانت تعتقد أنها ستنجح مباشرة أو عبر وسطاءٍ آخرين في ثني أنقرة عن نيتها، ومنعها من مواصلة إجراءات المحاكمة، وكان المستشار القانوني لرئاسة الحكومة الإسرائيلية يهودا فانشتاين قد حذر الحكومة من خطورة الإجراءات القضائية التركية، وأنه لا ينبغي الإهمال ولا التساهل معها، وينبغي على كل الضباط والجنود المتهمين بارتكاب جرائم بموجب القوانين الدولية، أخذ الحيطة والحذر، وعدم السفر إلى البلاد التي تسمح قوانينها باعتقالهم ومحاكمتهم، في الوقت الذي طالب فيه المستشار القانوني للحكومة الإسرائيلية بضرورة تعيين محامين لكل الضباط والجنود الذين أعلنت أسماؤهم بأنهم مطلوبين للمحاكمة.

إلا أن المحكمة التركية جادة في مواصلة إجراءات المحاكمة، ويبدو أنها لن تقبل أن تكون المحاكمة صورية أو رمزية، ولهذا فإنها ستصدر مذكرات توقيف واعتقال دولية بحق الضباط الأربعة المتهمين، وستجعل من القضية المعروضة أمامها سابقة قانونية دولية، يحكم بمقتضاها القضاة، ويستند إليها القانونيون، ويخشى منها ومن مثيلاتها قادة أركان الكيان الصهيوني، الذين كانوا يعتقدون أنهم سيفلتون من أي عقاب، ولن تطالهم أي محكمة، ولن تتمكن أي جهة من محاسبتهم أو معاقبتهم.

تصر الحكومة الإسرائيلية على رفض المحاكمات الدولية لمسؤوليها السياسيين والأمنيين والعسكريين، وتصر على ضرورة شطبها وعدم المضي بها ولو كانت المحاكمات صورية أو رمزية، إذ أن مجرد عقد محاكم لمسؤولين فيها، فإن هذا من شأنه الإضرار بسمعة الكيان الإسرائيلي، كما أنه يجرئ محاكم دولية أخرى لإجراء محاكماتٍ مماثلة، إرضاءً للرأي العام في بلادهم، أو خضوعاً لإدعاءات وشكاوى مواطنين عرب يحملون جنسياتها، أو نزولاً عند رغبة بعض المؤسسات والمنظمات التي تناهض السلوك الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المحتلة.

وكان نائب وزير الخارجية الإسرائيلي داني أيالون قد وصف الإجراء القضائي التركي بأنه خطير جداً، ودعا حكومته للقيام بكل ما يؤمن على أفضل وجه حماية مواطني كيانه من الناحية القانونية، وأعرب عن أمله بحصول ضغط دبلوماسي أجنبي يجبر تركيا على العودة عن إجراءاتها القضائية، واعتبر أن هذه الإجراءات القضائية التركية يمكن أن تكون لها تداعيات خطيرة على الحلف الأطلسي والقوات الأميركية في أفغانستان والعراق وفي مناطق أخرى، إذ ستكون سابقة قضائية خطيرة.

لعل ما أقدمت عليه تركيا من إجراءاتِ محاكمةٍ جدية وعلنية لمسؤولين إسرائيليين، يعتقد أنهم متورطين في جرائم ضد مواطنين أتراك، يساعد الفلسطينيين خصوصاً والعرب عموماً على رفع قضايا مشابهة، وإجراء محاكماتٍ مماثلة، حيث يمكن للدول العربية بالاستناد إلى القوانين الدولية، والاتفاقيات والمعاهدات القانونية والقضائية، وتلك المتعلقة بملاحقة مجرمي الحرب، ووسائل محاكمتهم وملاحقتهم، الإدعاء على مسؤولين إسرائيليين ومحاكمتهم، والأمر لا يتوقف فقط عند جرائم قتل الفلسطينيين والاعتداء على حياتهم وسلامتهم الجسدية، بل يمكن للقضاء أن يوسع اهتماماته ليطال بالنظر والمحاكمة الاعتداءات الإسرائيلية على بيوت الفلسطينيين ومصادرة أرضهم دون وجه حق، والاعتداء على المقدسات الإسلامية وحرمان المسلمين من حقهم في الصلاة والعبادة في مساجدهم.

الفلسطينيون يأملون كثيراً في أن تمضي المحكمة التركية في اتخاذ كافة إجراءاتها القانونية، وألا تتراجع عن قرارها مهما بلغ حجم الضغوط الدولية المفروضة عليها، إذ من المتوقع أن تمارس دولٌ وهيئاتٌ وشخصياتٌ كثيرة وعديدة ضغوطها على هيئة المحكمة، وعلى الجسم القضائي التركي، وربما يتواصل الضغط على الحكومة التركية نفسها لتتراجع عن إجراءاتها، خاصةً أن محاكم أوروبية أخرى، سبق أن حاولت فتح ملفاتٍ إسرائيلية، لمجرمي حربٍ كبار، ارتكبوا مجازر مروعة بحق الفلسطينيين، ولكن هذه المحاكم سرعان ما تخلت عن إجراءاتها، وتوقفت عن ملاحقاتها القانونية، بل إن بعض الدول الغربية غيرت أنظمتها القضائية لتتجنب محاكمة الإسرائيليين ومقاضاتهم، وأهملت الملفات التي كانت بين يديها، وطوت القضايا التي كانت تنظر فيها، حيث خضعت هذه الدول ومحاكمها إلى ضغوطٍ دولية شديدة، مارستها دولٌ كبرى، فضلاً عن النفوذ الصهيوني الفاعل والمؤثر والمتغلغل في أكثر من مكانٍ في العالم.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت