لقد شغلتنا هموم الدنيا عن المتابعة والكتابة بل لقد سأمنا واقعنا الفكري والثقافي بعد أن فقدت الكلمة قيمتها ومعناها وتأثيرها فوجدنا أنفسنا نعزف عن الكتابة والمتابعة وقد مرت ذكرى نكبتنا وضياع فلسطيننا ولم نكتب ولا أعلم ما الذي دفعني إلى الكتابة اليوم عن ذكرى 4 حزيران 1967 التي اختلف حول نتائجها الكتاب والمفكرين والمثقفين!
لقد شكلت نكسة أو هزيمة أو نكبة الأمة في 4 حزيران 1967 منعطف خطير (انتكاس بعد صعود وهمي نحو الوحدة والنهضة والتحرير) في تاريخ الأمة الحديث والمعاصر هانت معه كل هزائم الأمة ونكباتها قبله، قبل ذلك التاريخ كان لدى الأمة أمل في التحرير والعودة إلى كامل التراب والوطن الفلسطيني أما بعده فأصبح هم الأنظمة وليس الأمة التوصل إلى أي تسوية تعيد الأمور إلى ما كانت عليه قبله، أي إلى خطوط الهدنة (ما يسمى الخط الأخضر) التي وقعتها الجيوش العربية عام 1949 ولم تَعد العودة إلى حدود قرار التقسيم 181/1947 أو إلى كامل التراب الفلسطيني (ما يسمى خطأ فلسطين التاريخية)! فقد أصبح قرار 242 أساس أي تسوية دون أن نُدرك أنه ينص على إيجاد حل إنساني (أكل وشرب ومسكن وموطن) لمشكلة اللاجئين الفلسطينيين لا عودتهم إلى ديار الآباء والأجداد، وأخيراً انتهينا إلى مسمى وهمي (دولة فلسطينية) على جزء من أراضي الضفة الغربية فاقدة للسيادة وليس لها أي سيطرة على الأرض ولا على معابر الاتصال بالعالم الخارجي ولا تواصل جغرافي بين أجزائها وبلا قدس وبلا أغوار الأردن وبلا الكثير من مقومات الدولة المصادرة صهيونياً أو قد تكون هي قطاع غزة فقط!
قبل نكبة 4 حزيران 1967 لأن الأنظمة العربية خاصة الزاعمة أنها ثورية وتقدمية كانت تحاول أن تُضفي على شرعية وجودها مسحة جماهيرية تلاعبت بمشاعر الجماهير وتظاهرت بحرصها على تحرير كامل فلسطين واعتبارها قضيتها المركزية وواجب تحريرها يقع على عاتقها وكان شعارها لا للاعتراف لا للمفاوضات لا للاستسلام! أما بعد نكبة حزيران تبدل الحال ليس فقط إلى التنازل عن الأراضي المغتصبة عام 1948 وتمرير الاعتراف بكيان العدو الصهيوني ولكن للمساومة أيضاً على حقوقنا الشرعية ومقدساتنا في الأراضي المحتلة عام 1967، وأصبح كل قُطر أو نظام يبحث عن حل منفرد ويسعى إلى تسوية قُطرية على حساب حقوق الأمة في فلسطين والتخلي عن واجبه نحو المشاركة في تحريرها! وبدل أن يستمد شرعية وجوده من جماهير الأمة أصبح يستمدها من الاستسلام وقبول التعايش مع العدو الصهيوني والتطبيع معه في جميع المجالات، ومن خلال حجم التنازلات التي يقدمها على حساب سيادة الدولة القُطرية لصالح المخططات اليهودية-الغربية حتى انتهى بنا الحال إلى التعاون والتنسيق والوقوف معه في نفس الخندق ضد قطاع كبير من أبناء الأمة أصبح متهماً بـ(الإرهاب) أي المقاومة!
قبل النكبة كانت تتظاهر الأنظمة أنها حريصة على تحقيق الوحدة وإن كانت جميع ممارساتها تؤكد تكريسها حدود سايكس-بيكو وسيادة الدولة القُطرية، وقد كانت أدوات الحاكم المستبد في ذلك كثير ممَنْ زعموا أنهم مثقفون ومفكرون قوميين وثوريين وتقدميين وركبوا موجة النفاق والرياء والتملق للأنظمة العسكرية الحاكمة، في الوقت الذي كانوا يبذرون فيه بذور دولة القبيلة والعشيرة ويؤسسون إلى مزيد من التفتيت لأقطار سايكس-بيكو إلى كيانات فسيفسائية (الشرق الأوسط الجديد) الذي يبدو أنه بدأت تتضح معالم خارطته السياسية والعرقية والطائفية في زمن ما يسمى الربيع العربي، الذي جمع روافده المتناقضة فكرياً وسياسياً وحزبياً ومصلحياً عدائها للحاكم فقط وليس مصلحة الأمة والوطن وليس بإراداتها ولكن بإرادة الأيدي التي تُحركها من خلف الستار وتلعب بها كدمى وأرقوزات في حركات مضحكة مبكية تنتهي دائماً بنهاياتنا المأساوية! ولإدراك ذلك يكفي نظرة سريعة لأسماء كثير ممَنْ قادوا الخريف العربي سنجد أنهم كانوا في مرحلة ما أدوات أولئك الحكام الذين سقطوا في تثبيت عروشهم وقمع الجماهير وتزييف وعي الأمة ومازالوا يؤدون نفس الدور في ثوب ثوري زائف جديد!
كما أن نظرة سريعة على واقع ثورات ما يسمى الربيع العربي وحالة العداء بين مكوناتها التي شاركت في إسقاط الحكام فقط ولم تُحدث تغيير جذري أو حقيقي في الواقع وتَفجر الصراع بينها على الكرسي والسلطة في بعض الأقطار ما ساعد على استمرار حضور الأنظمة السابقة وتهديد ثوراتهم وتضييع تضحيات الجماهير سنكتشف أنهم ليسوا أهلاً لقيادة المرحلة! ونظرة لقطر آخر سنجد أن بعض مكونات ثورته يؤسس نواة جيش قبلي أو طائفي ويضع دساتير ويسن قوانين تُهيأ لانسلاخه بإقليم أو قطعة ما من أرض القُطر ليقيم عليها دولة وهمية في المستقبل بحسب إرادة مَنْ يلعبون بهم من خلف الستار! وتكاد تكون حالة الفوضى وفقدان الأمن وعودة الاستبداد والقمع وكبت الحريات سواء بإرادة الحكومات المنتخبة التي مازالت لم تُحكم سيطرتها على الجيش والشرطة والأجهزة الأمنية التي لم يتغير منها إلا بعض الأسماء أو خارج إرادتها صفة عامة لأقطار ما يسمى ثورات الربيع العربي! إضافة إلى الصراعات الحزبية التي يحاول فيها كل حزب خاصة الأحزاب التي فازت بأغلبية في انتخابات ما بعد الثورة مصادرة حقوق شركائها في الثورة والوطن والهيمنة على كل مفاصل الدولة ومنعهم من أخذ دورهم في إعادة بناء الدولة القُطرية، ما يعني استمرار دولة الحزب التي ثارت عليها الجماهير!
الحديث يطول في ذكرى نكبتنا الثانية عن نكبتنا في زمن ما يسمى الربيع العربي الذي قد يكون أمر ثمارها وأسوأ وأخطر نتائجها بعد أربعة عقود ونصف، فحاضرنا هو انعكاس لواقع الأنظمة العربية والأحزاب المعارضة باتجاهاتها الفكرية وأجنداتها وأيديولوجياتها السياسية ومصالحها الشخصية والحزبية المتناقضة، فعلى صعيد الأنظمة مازالت المحاور السياسية وامتداداتها الخارجية وحالة العداء بينها تكاد تكون هي نفسها التي أدت إلى نكبة الأمة في حزيران 1967 مع تغير المسميات، فما كان يُعرف في ذاك الوقت بالأنظمة الرجعية المتخلفة ودعمها للأحزاب الدينية وغيرها لتنفيذ مخططات العدو اليهودي-الغربي في حماية كيان العدو الصهيوني وتوفير الأمن له هي نفسها المتهمة الآن بدعم ما يسمى ثورات الربيع العربية لتنفيذ مخطط (الشرق الوسط الجديد) الذي يقسم المقسم ويفتت المفتت ويُعطي كيان العدو الصهيوني في النظام الإقليمي الجديد دور الريادة والقيادة، وكأن تلك الأنظمة التي كانت سابقاً تزعم القومية والثورية والتقدمية والآن المقاومة والممانعة كانت حريصة ومازالت على رمي اليهود في البحر! أما الأحزاب المعارضة على اختلاف توجهاتها الأيديولوجية ومشاربها الفكرية مازالت لم تبلغ مرحلة النضج وتتغلب على نزعاتها القبلية والعشائرية وتُقدم مصلحة الأمة والوطن على مصالحها الحزبية والشخصية ومازالت صراعاتها تشكل خطراً على مستقبل الأمة وتهدد وحدة أقطارها الجغرافية والسياسية!
وإن كنا نخشى أن يتمخض زمن الربيع العربي عن نتائج أخطر مما عليه الواقع إلا أننا على يقين أن كل ذلك زبد سيذهب جفاء وأن ما ينفع الناس يمكث في الأرض وأنه سيخرج من تحت الأنقاض ومن وسط هذا الحطام جيل جديد يثور على كل مخلفات العقود الماضية، سواء كانت بقايا الأنظمة أو الأحزاب المعارضة التي هي الوجه الآخر للأنظمة وتحاول أن تلبس لبوس الثوار دون أن تدرك حاجة الأمة والوطن في زمن العولمة والدول القارية لسياسات المشاركة للجميع في بناء الوطن بعيداً عن إقحام الأفكار والأيديولوجيات والولاءات والتحالفات الخارجية والداخلية في سن القوانين ووضع الدساتير، وأن يكون الولاء للوطن ومصلحة المواطن وبناء الدولة الوطنية ليس كدولة قُطرية ولكن كنواة لقُطر في حدود دولة أوسع وأرحب تجمع وتوحد الأمة في مواجهة أعدائها، ولبناء مشروع نهضة عالمي مستقل وخاص يكون مشروعاً منقذاً وبديلاً عن مشروع الهيمنة الغربي بكل مكوناته!
التاريخ: 6/6/2012
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت