زوروني كل سنة مرة

بقلم: شفيق التلولي


كلما هلت علينا ذكرى ، سواءا كانت عزيزة على قلوبنا أو أليمة ، تسارعت أقلامنا وانبرت للكتابة عنها ، وانطلقت ألسنتنا للحديث حولها ، وهتفت قلوبنا وصدحت حناجرنا لها ، ولربما اليوم نقف أمام ذكرى مختلفة تماما في شدة مضاضتها على النفس من واقع الحسام المهند .

إذ لعلنا نتذكر جميعآ كفلسطينيين في هذه الأيام يوم أن جثم الإنقسام فوق صدورنا وأرخى بسدوله وتمطى بصلبه، وأ...ردف إعجازً ونال بكلكل ، بفعل ما أحدثه الإنقلاب الدامي ومشاهده الأليمة على مسرح الإقتتال وأعواد المشانق والمقاصل المجنونة التى نصبت على رقاب شعبنا العظيم ، وما خلفه من خسائر بشرية ومادية جمى وانهيارات كبيرة على مستوى المنظومة السياسية والإقتصادية والإجتماعية ، ووضع الإنقلاب أوزاره وحسم الأمر والحمد لله وحط الإنقسام في ديارنا خمس سنوات ولم يزل إلى ما شاء الله وإلى أن يقضي أمرا كان مفعولا ، وما زال رحى الطاحونة يدور ولا نغنم منها سوى ضجيجها وشيئا من ملح صبغ الأرض وسبر أغوار مرحلة حملت في ثنايها وجع الذكريات وسنين الألم .

لقد اجتزنا حالة دق الخزان وولجنا جدار الشمس نتلمس قرصها الحامي الوطيس لنداعب نسيج أشعتها بحثا عن طوق النجاة والخلاص والإنعتاق ، وافترشت موائدنا لتتمدد طولا وعرضا ، وامتلأت أطباقها بما لذ وطاب من هرج ومرج وتداول وصولات وجولات ، ودقت أقداحنا إيذانا بإحتساء نخب الجدال والسجال وتأويل مفردات اللغة ، وتجاذبنا أطراف الحديث المنمق وارتدينا الحلل الأنيقة ، فعجت قواميسنا بحروف التباري على كبح قوابس الأمل ، واختزال التاريخ من خلال قذف العصي في عجلة الزمن ، وتسابقنا إلى سود الصحائف لا بيض الصفائح وما جلونا الشك والريب .

وفي هذا السياق دعونا نتسائل هنا : لماذا يستهوينا الحديث والجدل البيزنطي الطويل المطول خلف الكواليس المبهمة وأمام الفضاءات البراقة ؟ ولماذا يأسرنا الوقت حتى وإن كلفنا ذلك ردحا من الزمن ونغرق في التفاصيل بحثا عن تفاصيلها وتفصيلاتها التى مللناها وسئمناها ؟ ولما لا ننقض على زماننا الغابر فننفض عنه الغبار المر فينفض حوار الحوار ونفضي إلى خواتم المسك خيرا من عذب الكلام الناعم ؟ أو لم يستغرق آمري الإنقسام في حينه ربما خمس دقائق أو يزيد ليصار إلى ما صار !! وأولم يستغرق حسم المعركة قرابة خمسة أيام لينفرد الإنقسام خمسة أعوام ، إنها لمفارقة لافتة فيما بين الطيب والخبيث ، علينا أن نبحث في جوانبها عن طيب يمحو سنون المرار وصنوف الويلات ، لا أن نمضي بالخبث لإشباع جنبات الحوار السقيم ، وما يحمله من سكون ورتابة أم أنه ما ناديت إذ أسمعت حيا ولا حياة لمن تنادي ، فرفقا بنا يا سدنة الإنقسام .

وهنا يجدر الذكر بأننا لا نقلل من شأن الحوار ولا نقزم دور الأقلام وإنما سئمنا الترقب والإنتظار ، وما برئت جراحنا من بلسم الكلام ، وما أشفى غليلنا الخطب الصماء ، ولا ترياق الحوار العقيم ، بل لعلكم تطلون علينا برؤوسكم في كل عام فتنكؤون جراحنا وأنتم تقلبون لنا خريف الذكريات الأليمة ، فتعود قلوبنا تنزف من جديد فتدمع عيوننا ولا نجني غير لهيب الذكريات المريرة ، فيا ويلنا من كل اطلالة ذكرى تعتصر فيها أفئدتنا حتى أصبحنا ذكرى ككتاب مصفوف في مكتبة بين الكتب القديمة أكل عليه الزمان وشرب كلما جاء ميعاده نفضنا عنه الغبار ليتطاير ويذر في عيوننا ثم يهاجر إلى مستقر له .

إنما نخشاه أن تصبح هذه الذكرى تقليدا ترفع فيه مجالس الندب والنحيب والبكاء والعويل والتباكي ، أو أن نكون قد تأقلمنا مع هذا الواقع الصعب الذي فرضه الإنقسام ، بل بتنا نبحث عن آليات لإدارته والتكيف معه ، ونسينا أو تناسينا آهات الجرحى وآنات الثكلى وعذابات المفهورين والمكلومين وطوابير كبيرة من أبناء شعبنا لا عدد لها ، إذ لا تقف أمام المصارف والبنوك على رأس كل شهر لنحصوها ، غير أنها تمثل الأغلبية الصامتة وربما ستكون الساحقة في يوم ما تسحق كل من استمرأ الإستهتار والإستخفاف بها يوما بعد يوم ، بل هي قنابل موقوتة ستلقح أعمق الجبهات عاجلا أم آجلا فهي تترقب وتنتظر من يأتي لينزع الفتيل لتنفجر ويتناثر طوق الياسمين .

ونعود لنشكركم على رأس كل ذي ذكرى في كل عام من أعوام الإنقسام المر على استحضاركم لنا وقرع طبول آلامنا ونكئ جراحاتنا بحفنة ملح بعضا من الوقت ثم تجاهرون بالرحيل إلى ملتقى آخر في عام آخر وذكرى أخرى تعاود خلالها أقلامكم تنطلق من أدراجكم لتصدح حناجركم مجددا ولتغرد وتخط في صحفكم من دموعنا ونزفنا ابداعا يزين صفحاتكم الرائعة .

فلا تنسوا أن تزورونا كل سنة مرة وبصحبتكم باقة من حفنة ملح وطبول وحناجر وأقلام وباقة من الصحف وموائد الحوار وطيب أطباقها ونخب كؤوسها وشكر الله سعيكم .

دمشق في /
10/6/2012

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت