في تونس... قد تتصالح الشاة مع السكين....

بقلم: يونس العموري


أتى من عمق الفقر .. حاول ان يكون انسانا طبيعيا في ظل لا طبائع الوقائع الحياتية في بلاد العرب، من عمق البيداء الى سواحل المحيط الهادر الى المتوسط الأبيض الى ذاك المسمى بالخليج العربي ... كان صابرا صبورا عايش الفقر وارتضى لذاته ان يكون جزءا من المهمشين وان يعايش ويعيش في ظل قوانين الفقر والقمع ... أراد ان يكون أدميا انسانا معتزا ببشريته فصنع لذاته كينونة الحياة وان كانت في قعر المجتمع ... كاد ان يبرمج ذاته بعيدا عن تعقيدات دهاليز النظام والعبور الى منظومة مفاهيم الأمن والأمن المضاد ... لم يخطط لذاته ان يكون زعيما او قائدا جل ما اراده العيش ضمن الحدود الدنيا بالمقاييس الأدمية فمنعوه من ذلك...

بالصوت الآتي من عمق الخضراء جلست مترقبا ....فهو التوق للاستماع للحكاية من اولها ... وهو الانتظار للقادم من البعيد حتى يكتشف حقيقة الانسان القابع بين ثنايا الظلم والاظطهاد .... والكيفية الفعلية للتحرر والانعتاق من سطوة من اراد ان يكون الفرعون المؤله المعبود ... هي اقصوصة من قال لا بوجه التنين ووجد نفسه في غياهب التيه والظلم والاعتقال ... كان طفل حينما مارس شقاوة حريته واراد ان يصرخ بوجه العتمة ويثور على الاضطهاد وسواد الليل الحالك .... هو الجميل ذو الوجه البريء ابن الساحل من قضى سنين وسنين في أتون العلب الاسمنتية ... هو ابن الياسمين وابن تونس التي انتفضت على ذاتها وحطمت القيود عن الاحلام واطلقت العنان للحلم ان يستكين ...

جلس والقلق يبدو على محياه ... وارتسمت حمرة الخجل على وجنتيه حاول ان يكون طبيعيا مبادرا بالكلام اهلا بك بتونس واهلا بك بشارع الثورة ( شارع الحبيب بورقيبة ) وابتدأ بالكلام مستفسرا عن القدس وحواريها ومعادلة الوجود فيها وانسانية الانسان فيها .... ادركت انني امام شخص مختلف عن النمط التقليدي وعن معادلة التكوين البشري الجديد وعن قوة ارادة المؤمن بعدالة الحب والتوق للإنعتاق من وقائع يفرضها من ينصب ذاته الها على رقاب العباد .... اختلست النظر اليه محاولا استكشاف مكامن الهدوء والغضب .... وقراءة ما بين سطور الصمت (... نعم قضيت بسجون بن علي اربعة عشر عاما ....) عايشت تفاصيل الرواية والحكاية ... كان يروري اقاصيص يومياته في باستيلات مصممة لتركيع من يعشقون الحياة ويتوقون للنطق بلغة ادمية ...
كانت التفاصيل مذهلة ربما الاهم فيها معايشة الهم اليومي للحفاظ على الكينونة الانسانية ... انظر اليه وهو الهاديء وانا المُستفز من هول ما اسمع وكيف كان التفنن بالتعذيب وتجريد الضحية من هويتها البشرية لإحالتها الى مجرد كائن منزوع منه الكرامة والقدرة على التواصل الحسي والاحساسي مع المحيط كتمهيد لأن يكون خادما مطيعا في اقطاعية النظام وزبانيته وعبدا لرغبات سادة القهر ... قال الكثير عن فنون انتزاع المعنى الفلسفي للخلق البشري في البلاد العربية التي اضحت واحة مملوكة بشكل حصري للحاكم وسادة وسيدات امراء اللهو بجماجم من يسقطون على طريق الحب وممارسته ...

والحكاية يا سادة كما كل حكايا العشاق للارض والانسان والباحثين عن اغفاءة في ظل شجيرة على اطراف البحر بهدوء ومن يتوق لأن يمارس الصراخ بوضح النهار حينما يختنق من هول الصمت والامتناع عن الكلام ... والفقر سيدا للموقف ايها السادة والسطو على الحلم في ظل السراب صار الحقيقة المؤكدة في البلد الجميل ذاك الناطق بلغة خضراء معتقة ....

وتستمر الرواية وتحاول ان تضبط ذاتك من انفعالية مجنونة ولا تدري كيف تجري مقارانتك الغبية ما بين باستيلات خفافيش الليل هنا وظلمات القهر في سجون اسمها عربية لنظام يدعي عروبيته وانتماءه للممتد من المحيط الى الخليج ... انزع نفسي من سطوة السفر عبر الغمام في باستيل عسقلان واعود للمقهى واحدق بالوجه الجميل والبريء مستفسرا عن يومياته الآن في عهد ما يسمى بالربيع التونسي فيجبرني اكثر على التحديق بكينونته لأستوضح معنى الكلام ( سأجلس مع من كان بالأمس جلادي واجري المصالحات وسأقبل الاعتذار لكونه بالنهاية الانسان .... )
وجدتني اكتم الغيظ واحاول ان استنفر الهدوء بين جنبات ذاتي فكيف من الممكن ان تتصالح الشاة مع السكين ...؟؟

ان المشهد التونسي بات اكثر وضوحا فالسجال السياسي يفرض نفسه في كل جوانب الحياة الصاخبة والتي قد تبدو هادئة مطمئنة ماضية نحو الاستقرار وما هي الا لحظات حتى تتخربش المعادلة من جديد ويأتي من يأتي مكفرا مخونا منصبا ذاته وكيلا لحكم الله على الآرض .. الا ان الهدوء يعاود لملمة ذاته ويبعثرهم ويلفظهم الى هوامش التأثير بالسياق المجتمعي ....

تونس تبدو اليوم بهية جميلة مزهوة بخضرتها وبجمال انسانها وببشرها وحجرها فهي الان تقترب اكثر نحو حقيقتها والاهم انها تتكلم وتبوح باسرار ياسمينها وشموخ روابي سيدي بوسعيد ... ...

كان يحاول جاهدا ان يرسم المشهد من جديد ابتعد عن الكلام عن ذاته وتجربته وقال بحضرة الشهداء الكثير كنقش ذهبي على جدران التاريخ فهو الموت بملء ارادة الحياة وبقرار ذاتي معبر عن لحظة الانعتاق من الغضب حينما لا يُسمح بالقليل من الكرامة وباليسير من فتات العيش وبالبعض من كسرات الخبز ..

والبوعزيزي يبقى الاسطورة المكونة للجملة المفيدة في العصر الآتي والماضي فقد استجمع ذاته جيدا ولملم بقايا شخصيته المحطمة وشكل صورته من اجل الموت احتجاجا واستنكارا لتراجع امكانية الحياة، وامتشق آهاته وصرخ بكلمات نظمها عند اول ليل الوحشة حينما تسلل الى فراش الحصار والأشواك بعد ان داهمه السؤال والاستفسار عن جدوى الحياة ...

كان يبوح باعترافاته بلغته وبلغة هؤلاء المعذبين، وبلغة من تعرفون ومن لا تعرفون... فهل تستمعون..؟؟

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت