الحوادث المؤسفة التي وقعت مؤخراً، وتحديداً يومي السابع عشر والثامن عشر من يونيو 2012 الجاري، في مخيم نهر البارد للاجئين الفلسطينيين شمال لبنان، والتي ذهب ضحيتها اثنان من الشهداء من أبناء المخيم هما : أحمد أنيس قاسم، فؤاد محي الدين لوباني، وجرح خمسة وعشرين آخرين، لم تكن صاعقة في سماء صافية، ولم تكن طفرة مفاجئة لحالة مستقرة وساكنة، بل جاءت في سياق طويل من الأسباب البعيدة في مسلسل الظلم المسكوت عنه، الذي أحاط بأبناء الشعب الفلسطيني من اللاجئين في لبنان جراء القوانين والتشريعات والممارسات الرسمية اللبنانية التي مست هذا التجمع الفلسطيني منذ العام 1948، فيما بدت أسبابها المباشرة كنتيجة منطقية لحالة الاحتقان والتوتر التي نمت وتورمت مع قيام الجهات الأمنية اللبنانية منذ فترات طويلة بإحكام المزيد من الخناق والمضايقات على حركة الناس في المخيم وفي الإطار المحيط به. فكيف نقرأ ما حدث في مخيم نهر البارد قبل أيام خلت.
مأساة نهر البارد
في البداية نقول، لقد عاد اسم مخيم نهر البارد بقوة إلى الواجهة في لبنان بعد خمس سنوات من مأساته التي وقعت إبان ولادة ماعرف بمشكلة تنظيم (فتح الإسلام) وهو تنظيم غير فلسطيني ومستورد، وإن حَمل يافطة فلسطينية، وقد دخل أعضاؤه في حينها للمخيم بلعبة استخباراتية تورطت فيها عدة أطراف غير فلسطينية، لكن المواطنين الفلسطينيين في المخيم هم من دفع ثمن تلك المأساة قبل غيرهم بدمار المخيم وبيوته وإعادة تشريد أهاليه مرة ثانية في المناطق المحيطة به. فقد أشعل التنظيم إياه، مأساة مخيم نهر البارد أواسط العام 2006، وأنتج لأهالي المخيم نهاية مأساوية دفع ثمنها خمسة وثلاثون ألف لاجئ فلسطيني، فقد دمر المخيم تدميراً كاملاً، وسقط من أبنائه بين 20 مايو إلى 3/9/2007 سبعة وأربعون شهيداً لا ناقة ولا جمل لهم في أحداث مأساوية فرضت عليه بلعبة استخباراتية تورطت بها جهات لبنانية عدة لحسابات إقليمية، ومنها جهات قريبة جداً من مواقع القرار الرسمي وعلى مستويات معينة.
وبعد أحداث تلك الفترة، تمت عملية إعادة بناء بعض المناطق المدمرة في المخيم من قبل مانحين دوليين وبإشراف وكالة الأونروا، وما زال مخيم نهر البارد بأغلب مساحته مدمراً. وما زالت لم تُسلم من الوحدات السكنية إلا 200 شقة من أصل 5500، وما زالت أغلبية مواطنيه تعيش إما خارجه أو في خيم بنيت على عجل. ويقر المسؤولون الدوليون في وكالة الأونروا أن إعادة إعمار المخيم تشهد بطئاً شديداً، ويلقون باللائمة على الأزمة الاقتصادية العالمية وأزمة اليورو التي حجبت اجزاء هامة من الهبات والمساعدات الاوروبية بالدرجة الاولى. فيما فُرض طوق شديد على باقي مناطق المخيم المهجورة ومنع أي أحد من العودة إليها أو دخولها. وكان بالنتيجة أن فُرضت عزلة قسرية على مناطق المخيم القديمة وحتى الجديدة، من قبل الجهات الرسمية اللبنانية، وفي ظل حالة حصار شديدة من قبل الجيش اللبناني بطريقة لا إنسانية، حيث يُفرض على ساكنيه جملة من الإجراءات الأمنية المهينة التي لا تليق بإنسان ولا بكرامة البشر، ورغم هذا كان سكان المخيم من الصابرين المرغمين على الأمر، المحتسبين عند رب العالمين ظلم ذوي القربى.
ماحدث كان متوقعاً
وانطلاقاً من المعطى إياه، فقد كان ما حدث في مخيم نهر البارد متوقعاً لمن كان يعرف ويتابع أوضاع اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، وخصوصاً في منطقة الشمال اللبناني، وهي المنطقة التي التهبت مؤخراً بشكل ملفت، ووقعت في مناطق منها داخل مدينة
طرابلس اشتباكات عنيفة بين جماعات لبنانية مختلفة لم يكن للفلسطينيين أي يد فيها او أي تدخل حتى ولو كان غير مباشر. وقد سقط في تلك الاشتباكات امرأة فلسطينية من أبناء مخيم البداوي المجاور لمخيم نهر البارد جراء إطلاق قذيفة (بي سفن) على مدخل مخيم البداوي من قبل تلك الأطراف، وهو ما دفع بالجهات المعنية الفلسطينية والمشكّلة من عموم القوى والفصائل لاتخاذ خطوات معينة للنأي بالنفس وبالفلسطينيين عموماً عن كل تلك التداعيات والهزات العنيفة التي جرت بين أطراف لبنانية مختلفة شمال لبنان داخل وعلى تخوم مدينة طرابلس.
ولكن الفتيل الذي أشعل الشرارة هذه المرة، انطلق مع ارتفاع منسوب الاحتقان والتوتر بين الناس من أبناء مخيم نهر البارد، في ظل التدقيق غير الطبيعي الذي تجريه الجهات الأمنية اللبنانية، المنتشرة في تلك المنطقة، على حركة الناس من الفلسطينيين من أبناء مخيمي نهر البارد والبداوي، وتكريس منطق الموافقة والتصريح على حركة الناس من وإلى المخيمين المذكورين، وإغلاق المناطق القديمة من مخيم نهر البارد ومنع الناس من دخولها أو حتى تفقد مساكنهم وبيوتهم التي دمرت إبان مشكلة ما عرف بتنظيم فتح الإسلام.
وقد وصلت بعض تلك الممارسات الى حدود لاتطاق في توجيه الاهانات والشتائم للناس المارين عبر تلك الحواجز، بما في ذلك التوقيف المتعمد للنساء وكبار السن على الحواجز لفترات زمنية، وما إلى ذلك من تلك الممارسات التي «تستوطي حيط الفلسطينيين» على حد تعبير المثل الشعبي، باعتبارهم أيتاماً على مأدبة اللئام.
آذان من طين
زد على ذلك فان وجود بعض الحالات الموتورة من الجهات اللبنانية النافذة الأمنية والعسكرية وغيرها، ساعد على تسخين تلك الأجواء بشكل مستديم طوال تلك الفترة، فيما كانت المعالجة الفلسطينية الرسمية والفصائلية عموماً لتلك الحالة تتم بهدوء وأحياناً بشكل خجول مع الجهات الرسمية اللبنانية، التي تستمع عادة لشكاوى القوى والفصائل الفلسطينية التي تلتقيها، وتعلن تضامنها مع مطالب الفلسطينيين، لكن آذانها من طين، فما تلبث أن تدفع بتلك الشكاوى لتطير من آذانها التي سَمعت بها فور خروج الوفود الفلسطينية التي تلتقيها.
ان تلك المعالجات الخجولة الناعمة والطرية من قبل الجهات الفلسطينية المعنية مع مختلف الأطراف اللبنانية، فاقمت بالأمور وأوصلتها الى حدود قريبة من الانفجار، وقد نشهد في الفترات القادمة هبات أو انفجارات عنيفة في المخيمات الفلسطينية في لبنان إذا لم يتم معالجة تلك الأمور برؤية حكيمة وإنسانية ووطنية وقومية، ينتفي منها طابع المعالجات الأمنية السقيمة التي تعشقها وتتبناها جهات لبنانية بعينها، وهي جهات موتورة وحاقدة، وتحمل في ذاتها ارثاً وتاريخاً ملوثاً ممتداً في جذوره ورواسبه لزمن الحرب الأهلية البشعة التي أكلت الأخضر واليابس، وانتجت أمراء الحروب وزعامات الميليشيات المرتبطة بمعادلات اقليمية وذات نفس طائفي حاقد وغير عروبي.
لقد سئم المواطنون الفلسطينيون في لبنان تلك المعالجات الأمنية، وسئموا معها هذا السلوك المقيت في جانب، والمفزع في الجانب الأخر منه، من قبل العديد من الجهات اللبنانية التي لا تكل ولا تمل في توظيف السلوك العنصري ضد الفلسطينيين، الذين باتوا على حدود قريبة من الكفر من تلك الممارسات والتي لن تقود سوى لإعلاء صوتهم في وجه من يتفنن بهدر كرامة المواطن الفلسطيني المظلوم والمكلوم في لبنان.
المعالجة الأولية
لقد آن الأوان لنقول وللمرة الألف، وللجميع في لبنان : كفى هذا الظلم بحق اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، وكفى هذا التجبّر بحق هذا الشعب اللاجىء الذي لن يساوم على وطنه ولن يقبل بغير فلسطين من البحر الى النهر وطناً نهائياً له حتى لو أطبقت الثريا على الثرى.
لقد آن الأوان على لبنان، وعلى قواه السياسية المتنورة التي وقفت دوماً الى جانب القضية الفلسطينية، التحرك من أجل حل معضلة القضايا المتعلقة باللاجئين الفلسطينيين في لبنان، والذين باتت أعدادهم لاتزيد عن (250) ألف لاجىء فقط، بعد حملات التطفيش التي مورست بحقهم ودفعت بغالبيتهم للهجرة الى أصقاع المعمورة الأربع في أستراليا وأوربا وغيرها على أمل العودة لهم أو لأحفادهم الى فلسطين طال الزمن أم قصر.
لقد آن الأوان على لبنان، الحضاري، لبنان التاريخ، لبنان الوجه الناصع، لبنان المقاومة والشعب المقدام الذي وقف وكان دوماً مع المقاومة الفلسطينية التي احتضنها قبل العام
1982، لبنان اللاطائفي، أن يلتفت الى مأساة اللاجئين الفلسطينيين، فقد بات من المخجل بعد (64) عاماً من نكبة فلسطين أن تبقى الأمور كما هي بالنسبة للاجئين الفلسطينيين في لبنان وكأن الأمس البعيد واليوم سيان، وكل ذلك تحت ذريعة محاربة التوطين، وهي معزوفة راقت لبعض ساسة لبنان وقادة الحروب والميلشيات الملوثة أياديهم بالدماء، الذين استخدموها ببراعة في المعادلة اللبنانية الداخلية وفي حروبهم المدمرة لوطنهم لبنان.
أخيراً، ان المعالجة الأولية السريعة لما حدث في مخيم نهر البارد، تقتضي من الجهات اللبنانية الرسمية إلغاء نظام التصاريح على الداخلين والخارجين، وإنهاء الحالة العسكرية المحيطة بالتجمعات والمخيمات الفلسطينية، فهل يعقل أن يبقى المخيم محاصراً على هذه الصورة، لا يتم الدخول اليه والخروج منه إلا بتصريح عسكري، حتى بالنسبة لسكانه، حتى بالنسبة للصحفيين. كما تفترض المعالجة الأولية إجراء تحقيق جدي في الحوادث الأخيرة ومحاسبة المتورطين بالدم الفلسطيني.
صحيفة الوطن القطرية
الأربعاء27/6/2012
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت